حفل مدرسي يومي!

 

د. سمير محمود

كاتب صحفي مصري

أتذكر قبل عقود طويلة، حين كنت تلميذًا بالمدرسة، أننا كنا نشهد بطريقة أو بأخرى، ما يشبه الحفل اليومي المتكرر؛ إذ كان الفصل ينتظر مقدم أحدهم بالذات لتبدأ سلسلة من السخرية والاستهزاء اللفظي، وتمتد في بعض الأحيان للاعتداء البدني والتطاول على هذا التلميذ أو ذاك، وركله وصفعه على وجهه ورأسه، والعبث بحقيبته وبعثرة أشيائه بشكل مهين وسلبها، يحدث هذا غالبًا ضد تلميذ/ تلميذة ربما يعاني من الاختلاف عن الآخرين ومن الانطواء أو التأخر الدراسي، أو قصر القامة أو اختلاف في الشكل والملامح، وأحيانًا كان الأمر نفسه يتم حرفيًا مع أحد الفائقين المتميزين، الذين يطلق عليهم في بلدان الخليج اسم "مصطفى"، وهو مسمى معروف لأولئك الطلاب الحريصين جدًا على التفوق والتميز والنبوغ.

هذا الحفل المدرسي على أحد الطلاب أو الطالبات أو تلاميذ المدارس، تشهده دول العالم أجمع منذ عقود طويلة بدرجات متفاوتة، هكذا عرفنا وشاهدنا ألوانًا من هذه السلوكيات العدوانية سواء اللفظية أو البدنية في الدراما الاجتماعية التي كانت تصلنا من هوليود الأمريكية، كما شهدنا ما يماثلها في أفلام ومسلسلات بولييود، وصولًا للدراما والأفلام المصرية والعربية، وكلها تجتمع في خط واحد مشترك، هو فعل إيذاء لفظي، نفسي وبدني متكرر من فرد أو مجموعة من الأفراد (هم تلاميذ المدارس وطلابها) ضد أحدهم/ أو إحداهن؛ يضاعف من الألم إلى حد اليأس، أن تتم هذه التصرفات العدوانية، في غفلة من إدارات المدارس أو أولياء الأمور لدواعي الخجل المفرط أو تجنب تطور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.

الأشد إيلامًا فيما بات يعرف اليوم "بالتنُمر المدرسي"، أن يدخل على الخط مع المتنمرين، معلم أو معلمة تمارس السلوك نفسه ضد تلميذ أو تلميذة أو تغض الطرف عما يحدث نحوه من المعتدين من الأقران، أو تتجاهل مجرد الإنصات للتلميذ الواقع تحت هذا العبء النفسي الرهيب، لتتسبب تلك الممارسة اليومية السخيفة في أجواء عدائية ضد التعليم والتعلم، وضد الزملاء وضد الرغبة في الذهاب للمدرسة وصولاً لحالة رفض شاملة للخروج من المنزل، أو مخالطة الآخرين.

التنُمر ربما مفردة جديدة على مسامعنا، ظهرت في الآونة الأخيرة ودشنت لها اليونسيف حملة موسعة بمشاركة تربويين وإعلاميين ومشاهير من الأوساط الفنية والرياضية والسياسية حول العالم العربي؛ لكن كما أوضحت في مقدمة هذه المقالة، التنمر ظاهرة قديمة جدًا في مجتمعاتنا ومدارسنا، وتتفاوت حدتها من بلد لآخر ومجتمع لآخر، بحسب ظروف عديدة تتعلق بدرجات الوعي والتربية والنظام وتطبيق القانون، والتقدم والتحضر والذوق العام والأخلاق والوازع الديني، والرقابة والتقويم التربوي وسلسلة طويلة من الاعتبارات التي اختلت وغابت بقدرة قادر عن بعض المجتمعات العربية.

يفاقم من تلك المشكلة، دخول منصات التواصل الاجتماعي على الخط، واختراق مساحات الخصوصية الفردية، وانتشار حملات إلكترونية ممنهجة للسخرية من هذا الشخص أو ذلك السلوك أو تلك الفكرة، وصولًا إلى حد التشويه والتهديد والابتزاز، حتى صارت بعض المجتمعات وكأنّها غابة من الوحوش يتربص فيها الكل بالكل، الكبير والصغير سواء في ذلك.

لم تعد قضيتي هي رد الاعتبار المطلوب – وهو حق أصيل بالطبع – للتلميذ أو التلميذة الخاضعين لهذا اللون من ألوان الاعتداء، وإنما ضرورة كشف حالات التنُمر مبكرًا وبترها من جذورها، وتفعيل دور إيجابي لأولياء الأمور يتجاوز حد الشكوى إلى مشاركة المدرسة والمجتمع في الحل، وتشجيع التلاميذ على الإبلاغ عن أي حالة من حالات التنمر تلك، ومراقبة الفصول مراقبة تامة وكذلك الحافلات المدرسية وكل مرافق المدرسة، لمنع الظاهرة استباقا، دون الاكتفاء بردات فعل لاحقة باردة، قد تضاعف المشكلة وتفاقمها لتصبح أزمة، فتتبدل أحوال أبنائنا وبناتنا، وبدلًا من أن يصبحوا زهورًا في الحياة، يتحولون لكائنات عدوانية مشوهة، تفقد الثقة في النفس وفي الآخرين، وتعيش أجواء من الخوف والتوتر والتردد والسلبية والانطواء، وما قد يصحب ذلك من تأخر دراسي، سرعان ما يُفقد هذه الزهور الجميلة رغبتها في الحياة، فتعتزلها وتشيب قبل الأوان!

 

تعليق عبر الفيس بوك