هل الضمير البشري كاف لوقف العنف تجاه الآخر؟

 

د. حيدر أحمد اللواتي

 

التاريخ والعصر الحديث شهد سلسلة من أعمال العنف في مختلف مناطق العالم قام بها أفراد بسطاء من عامة المجتمع تم تجنيدهم للقيام بأمور وأفعال تقشعر منها الأبدان. ترى ما الذي يدفع أفرادًا من عامة المجتمع للقيام بأعمال عنف وقسوة كبيرة على الرغم من أنّهم لا يملكون ماضيا ملوثا وتربوا في بيئات مسالمة؟

في هذه المقالة نحاول أن نسلط الضوء على أحد الأسباب الهامة التي ربما تفسر لنا جنوح الإنسان إلى هذا النوع من السلوك العنيف، وهنا نريد أن نوضح أننا لا نتكلم عن الأفراد الذين نشأوا في بيئات غير سوية تمجد العنف وتغرسه في نفوس الناشئة بل نتكلم عن أفراد تربوا في بيئات مسالمة.

في محاولة للإجابة عن هذا التساؤل قام عالم أمريكي اسمه "ستانلي ملغرام" بعمل تجربة شهيرة اسمها "تجربة ملغرام" لكي يقيس بواسطتها مدى انصياع البشر لسلطة ما وذلك لتنفيذ أشياء تتعارض تماماً مع الضمير والعقل. حيث قام بجمع مجموعة مختلفة من الرجال ومن مستويات تعليمية مختلفة بحجة أنّه يريد أن يقوم بتجربة لقياس مدى "تأثير العقاب على العملية التعليمية" وذلك في عام ١٩٦١ في جامعة يل في الولايات المتحدة الامريكية، وتعد جامعة يل أحد أرقى الجامعات العالمية.

في هذه التجربة يقوم أحد المتطوعين بدور المدرس وآخر بدور الطالب ويقوم مشرف من الجامعة بالإشراف على المدرس. حيث يوضع الطالب في غرفة منفرداً ومنعزلا عن المدرس الذي لا يرى الطالب ويكون في غرفة أخرى.

يقوم المدرس بتوجيه أسئلة للطالب فاذا أخطأ الطالب في الإجابة يضغط المدرس على زر معين لكي يعاقبه عن طريق توجيه صعقة كهربية له تزداد تدريجياً مع كل خطأ بدئاً من 30 فولتا وتصل الى 450 (١)

وفي الواقع لم يكن هناك صعق فعلي بل كان هناك تسجيل لأصوات صعق كهربي وأخرى متزامنة لها بصوت الطالب وهو يصرخ من الصعق ويرتجي المدرس ألا يصعقه مرة أخرى، ويشرح له أن قلبه ضعيف وأنّه من الممكن أن يموت بسبب الصعق، وأنه لن يستطيع تحمل صعقة أخرى وأنّ الأمر مؤلم جداً، وفي بعض الأحيان كان يقرع الحائط الذي بين الغرفتين مرتجيا إنهاء التجربة بل وصل الأمر إلى ألا يسمع المدرس صوتا للطالب ويظن أنهّ قد مات فعلا.

في هذه الأثناء يقوم المشرف الذي يمثل الجامعة وهو ممثل آخر بتوجيه المدرس والضغط عليه لإكمال الاختبار للنهاية مؤكداً له أنه ليس هناك أدنى مسؤولية تقع عليه، وأن الجامعة هي التي تتحمل المسؤولية كاملة وأنه لا يمكنه التوقف عن الاختبار، ولكن لم يكن هناك تهديد بالقيام بأي شيء عنيف ضده أو ضد أحد أفراد أسرته.

تمت التجربة على عدد كبيد جدا من الرجال يصل عددهم إلى ٧٠٠ رجل، فماذا كانت نتيجة التجربة؟ (١)

 الواقع أن النتائج كانت صادمة بشكل مفزع حيث إن ١٠٠٪ من المتطوعين قد وصلوا لصعق الطالب بـ ٣٠٠ فولت قبل أن يتوقفوا عن تكملة الاختبار، بينما أكمل ٦٥٪ الاختبار للنهاية وصعق الطالب بجهد كهربي ٤٥٠ فولت في وجود مشرف من الجامعة.

في عام ١٩٧٤ تمت إعادة التجربة على أربعين رجلا وكانت النتائج شبيهة جدا بنتائج التجربة الأولى حيث أكمل ٨٥% من الرجال الاختبار للنهاية ووصل الصعق الكهربي الى أقصى مداه في التجربة.

وفي مارس عام ٢٠١٧ تم نشر نتائج تجربة مماثلة ولكن كان الممثل (الطالب الذي يتعرض للصعق الكهربي) هذه المرة امرأة وليس رجلا، وكان الهدف من وراء ذلك، أن الرجل قد يتعاطف مع النساء أكثر ولربما يشعر بنوع من الشعور الذي لا يسمح له بإخضاعها لصعق كهربائي شديد، أجريت هذه التجربة في بولندا ونشرت في أحد المجلات العلمية المحكمة (٢)

شارك في هذه التجربة ٨٠ رجلا تتراوح أعمارهم بين ١٩ و٦٩ سنة وكانت النتائج مماثلة تماما للتجارب السابقة بل أكثر ايلاما حيث أكمل٩٠% من الرجال الاختبار للنهاية ووصل الصعق الكهربي إلى أقصى مداه وهذا يعني أن الإنسان يقوم بالخضوع للسلطة وبغض النظر عمّن يقوم بتعذيبه رجلا كان أم أنثى علما بأنّ المشرف كان يستخدم عبارات حازمة كقوله "من الضروري الاستمرار في التجربة حتى النهاية".

هل بالإمكان الاستفادة من هذه التجارب وتعميمها على السلوك البشري لفهم الأسباب التي أدت الى قيام أفراد عاديون في التاريخ وفي العصر الحديث بأعمال عنف مروعة تجاه الآخرين؟ وماهو السبيل للحد من هذه الظاهرة؟

أنّ تجربة ملغرام والتجارب الأخرى تنبهنا إلى أمور عدة في غاية الأهمية يمكن تلخيصها فيما يلي:

  1. أن الضمير وحده في أغلب الأحيان لا يكفي حائلا لمنع الانسان من ارتكاب جرائم في حق الآخرين بوجود سلطة نافذة عليا تأمره بالقيام بذلك، وهذا ما نلاحظه من التجارب الثلاثة التي ذكرناها، فكل من شارك في الاختبار تربوا في بيئات مسالمة وكانوا يحملون قيما إنسانية ومع ذلك لم يمنع ذلك أغلبهم من الاستمرار في التعذيب، وهذا ربما يساعدنا في فهم كيف أن أناسا تربوا في بيئات مسالمة يمكنهم نتيجة لخضوعهم لسلطة تشرف عليهم وتخليهم من المسؤولية بأن يتركبوا جرائم عنيفة تجاه الآخرين.
  2.  لكي لا ينزلق الإنسان في هذا النوع من الجرائم لابد من تحقق أمر آخر وهو الإيمان العميق والقوي مع حضور واستشعار ذهني بوجود سلطة أخرى إلهية غيبية تراقبه وتمنعه من القيام بهذه الأعمال اللاأخلاقية ووجود هذا الشعور يجب أن يكون قويا جدا بحيث يلغي تأثير السلطة التي تدفعه للقيام بأعمال لا أخلاقية ولعل القرآن الكريم يشير في مواقف عدة كيف أن الشعور بوجود رقابة الهية تمنع صاحبها من ارتكاب جرائم لا أخلاقية فمثلا يقول قابيل مخاطبا أخاه " لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٨﴾" وكذلك يوسف عندما يخاطب زوجة العزيز مستشعرا وجود الله عز وجل بقوله " وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿٢٣﴾، بل إن الديانات السماوية لم تكتف بغرس مفهوم الرقابة الإلهية فحسب بل دعمته بقوة المحاسبة الإلهية التي ستحاسب الانسان على كل صغيرة وكبيرة سيقوم بها "وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا"
  3. المشاركون في التجارب ألقوا بمسؤولية التفكير واتخاذ القرار لمشرف الجامعة كسلطة أعلى وتعطلت عقولهم وقاموا بأمور وحشية مدمرة، لقد تم تغييب عقولهم تماماً، وأصبحوا في حالة أخلاقية شديدة الانحطاط ولذا فمن المهم جدا أن نربي أنفسنا على استخدام العقل وأعماله في تقييم جميع الأمور والأفعال فكل سلوك وعمل يتصادم مع العقل والضمير مرفوض بغض النظر عن السلطة التي تأمر به أكانت سلطة على مستوى الأسرة أو العمل أو كانت سلطة دينية أو سياسية أو غيرها، ولعل القرآن الكريم أشار إلى كيف أن الأتباع الذي يلغي العقل يؤدي إلى الهلكة "تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ ﴿٦٦ الأحزاب﴾ ، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴿٦٧ الأحزاب﴾" ويشير إلى عدم الخضوع للسلطة الدينية الفاسدة في قوله تعالى "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴿٣١ التوبة﴾".
  4. الامتناع عن بعض الممارسات كالشعوذة والسحر وغيرها من الأمور التي قد تغرس في اللاشعور نظرة سلبية تجاه استخدام العقل وإعماله.
  5. تعميق الايمان بأن كل سلوك أخلاقي يقوم به الإنسان سيكون مسؤولا عنه ومحاسبا عليه ولا يوجد إنسان على وجه هذه البسيطة سيتحمل عنه وزر ما قام به حتى ولو أظهر استعداده لتحمل وزر العمل "وأنّ للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى" وقوله " ولا تزر وازرة وزر أخرى"، ولذا فعلى الإنسان أن يكون حذرا جدا في كل عمل يقدم عليه فهو من سيتحمل تبعات هذا العمل لا أحد سواه.

ختاما لابد من الإشارة إلى أهمية الاستفادة من التطور الهائل في بحوث العلوم النفسية والاجتماعية في شتى مناحي الحياة العلمية والاقتصادية وغيرها والتي ستفتح آفاقا كبيرة لمن يطلع عليها ويستطيع أن يستفيد منها في وضع الخطط المستقبلية.

 

 

** أستاذ مشارك، كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

                                    e-mail: haiderl@squ.edu.om

Webpage: https://haider0aj.wixsite.com/haider

 

                                     

 

المصادر:

 

  1. Milgram Stanley, Behavioural Study of obedience, The Journal of Abnormal and Social Psychology, 67, 1963, 371-378.

 

  1. Dariusz Doliński, Tomasz Grzyb, Michał Folwarczny, Patrycja Grzybała, Karolina Krzyszycha, Karolina Martynowska, Jakub Trojanowski, Would You Deliver an Electric Shock in 2015? Obedience in the Experimental Paradigm Developed by Stanley Milgram in the 50 Years Following the Original Studies, Social Psychological and Personality Science, 8, 2017, 927-933.

تعليق عبر الفيس بوك