طالب المقبالي
لأول مرة أقف عاجزاً عن الكتابة في هذا الموضوع وذلك لضخامة المُناسبة وتعدد مضامينها، وتشعب فروعها، فمن أين أبدأ؟ هل أسرد قصتي مع الحدث ومع الاحتفالات الأولى للعيد الوطني المجيد في سبعينيات القرن الماضي، أم أسرد إليكم كيف كنَّا نحتفل؟ وكيف كنا نستمتع بهذه المناسبة الغالية على قلوبنا جميعاً، أم أضع بين أيديكم مقارنة بين الاحتفالات السابقة وبين الاحتفال بالعيد الوطني 48 المجيد.
كل جزء مما سبق ذكره يستحق أن يُفرد له مقال خاص به حتى يعي من فقد الإحساس بأهمية هذا اليوم لدى كل عماني محب لوطنه ولسلطانه.
ربما جيلنا الذي ذاق مرارة وشظف العيش يستطيع أن يُقارن كيف كنا وكيف صرنا، فالفارق خيال قد لا تستوعبه كلمات، وربما لا يستطيع استيعابه من لم يعشه بنفسه، ففاقد الشيء لا يُعطيه.
كنَّا كأطفال سبعينيات القرن الماضي نبتهج مع اقتراب المناسبة، وكنَّا نساعد الكبار في إقامة الأقواس في الشوارع العامة، وفي الحارات القديمة، الكل يعمل كخلية واحدة، الأطفال يقتطعون أطراف النخيل، والكبار يقتطعون الجذوع التي تصنع بها الأقواس، فيما تعمل الأمهات على خياطة الأعلام والكراكيش الملونة بألوان العلم العماني التي سترفع على الأقواس.
لم تكن هناك عمالة وافدة من الهند وباكستان وبنجلاديش تقوم بهذه الأعمال كما هو الحال اليوم، ولم تكن هناك أعلام ومُلصقات وبوسترات جاهزة تصلنا من الصين ومن دول أخرى. كان المنجز بأيادٍ عُمانية 100% وكان الإنجاز مبهراً وكان العمل مُتقناً تماشياً مع تلك الفترة، فكانت المتعة لا توصف.
وكان هناك نوعان من الأقواس، فالشوارع الرئيسية تقام عليها أقواس مصنوعة من الخشب ومطلية بالأصباغ بألوان العلم العماني، ومكتوب عليها عبارات بهذه المناسبة من بعض الخطاطين، وكنت يومها أحد الخطاطين الصغار الذين سطروا أحرفاً من نور من خلال هذه الأقواس، فقد كنَّا نعتلي الرافعات (الشيول) لنكتب العبارات على تلك الأقواس وهي منصوبة في علو شاهق، وكنا في قمة السعادة. المشهد يحتاج إلى توثيق بالصور، ولكن الانهماك في هذه المهمة والاهتمام بها ينسينا أحياناً جوانب لا نراها في ذلك الوقت مُهمة، لكنها لو وثقت لأيامنا هذه لكانت من أجمل الصور، وأرقى معاني الوطنية واللحمة بين الشعب والقائد.
في كثيرٍ من الأحيان نصادف هطول أمطار تستمر لأيام جراء منخفضات قادمة من الشمال، وكنَّا نتحين الفرص عند توقف الأمطار لمواصلة العمل، وغالباً ما يتم العمل في الصباح حيث تتوقف الأمطار وتعاود الهطول مساءً.
كانت أياماً جميلة وممتعة ويخونني التعبير عن وصف مشاعرنا ونحن نؤدي هذه الأعمال الجليلة بكل حب وإخلاص، فكانت النفوس طاهرة، وكان الحب صادقاً، وكان التذمر معدوماً، وليس له مفردات في قاموسنا آنذاك. لقد فاقت فرحتنا بالأعياد الوطنية فرحتنا بالأعياد الدينية لما لها من خواص وفعاليات متنوعة.
يأتي اليوم الموعود للاحتفال فتجتمع الجماهير نساءً ورجالًا أمام القلعة، فتلقى الكلمات والقصائد الشعرية المعبرة، وتقام الفنون الشعبية وفنون العازي والتغرود والرزحة، وتشاركنا فرق موسيقى الجيش والشرطة، ولا أذكر جيداً إن كانت موسيقى شرطة عُمان السلطانية، أم موسيقى الجيش السلطاني العماني، فالذاكرة قد تستوعب أشياء وتغيب عنها تفاصيل أخرى، لكنها في النهاية لحمة وطنية واحدة، وتعاون بين الحكومة والشعب، وتستمر الأفراح لعدة أيام.
وكنَّا ننتظر بلهفة ونجتمع لمُتابعة خطاب حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله- والإصغاء بدقة لكل كلمة يقولها، فقد كان النطق السامي عبارة عن دروس وأوامر وتوجيهات لبناء وإعمار البلاد من أجل رفاهية الإنسان العماني.
هذه الأجواء كنَّا ننتظرها عاماً بعد عام، وهذه التجمعات لم يكن الآباء يعرفونها قبل عام 1970 عدا الاحتفالات الشعبية بالأعياد الدينية وفي نطاق محدود.