الاستلاب الفكري (1- 2)

 

د. صالح الفهدي

طرحَ أحدهم سؤالاً يستنكرُ فيه طغيان اللون الأسود في مُجتمعاتنا على خلاف الألوان المشرقة التي كانت سائدةً منذ عقود.. متسائلاً وهو يوميءُ إلى الألوان الزَّاهية الجميلة: من أينَ أتيتم بالسَّواد؟!

ولقد هالني في الرُّدود درجة الاستلاب الفكري الذي تعرَّضت له مُجتمعاتنا، بحيثُ أصبحَ الرأي في "الألوان" كأنَّه انتهاكٌ للمقدَّس..!! علينا هنا أن نتكلَّم بشفافية واضحة، فالاستلاب واضحٌ في الردود المنفعلةِ التي تربط السوادَ بالحشمةِ والسِّتر وغير ذلك وتردُّ ناقمةً على المتسائلِ مُحمِّلةً مقصد السؤالِ ما لا يحتملْ..!! وأعلمُ أن تلك التبريرات هي من مما اختزن في الَّلاشعور بسبب الاستلاب وتصوير اللونِ نفسه-وإن كان كئيباً- على أنَّه رمزٌ للسِّتر والحشمةِ، وأنَّه اللون الذي لا يتعارضُ مع الدِّين..! وهذه كلَّها تبريراتٌ غير صحيحة بالمنطقِ العقلاني.

لكن ليس اللونُ هو معقدُ الحديث هنا، وإنَّما ربطُ اللونِ بالقداسةِ، والإيمانيات، والحشمةِ وغير ذلك، وكأنَّما قد نزل فيه نصٌّ قرآنيٌّ لا يجوز تجاوزه..! بينما هو جزءٌ من اللِّباسِ المُتغيِّرِ بحسبِ البيئاتِ والظروفِ الحياتيَّةِ، وسواها، ويجب أن يُفهم بدايةً أننا لسنا ضد كلَّ ما يحفظُ للإنسانِ عامَّةً ذكراً أو أُنثى وليس للمرأةِ وحسب الحشمةَ والسِّتر، ولكن ضدَّ اعتبار ذلك مما لا يجوز التساؤل حوله، وعدم المساس به وكأنَّما هو أحد التابوهات الاجتماعية التي ارتبطت -أو رُبطت بالأحرى- في الذِّهنية الاجتماعية بالحشمةِ والسِّترِ وإن كانَ ذلك على حسابِ الصحَّةِ، أو المظهر العام.

أكرِّرُ التذكير بأنَّ القضيَّةَ هُنا ليست قضيَّةَ لونٍ أسودٍ طاغٍ في مُجتمعاتنا وتبريرهِ بأنَّه اللونُ الأوحدُ لصونِ الذاتِ الأُنثويةِ من أيَّةِ تجاوزاتٍ أخلاقية.. ليست هذه القضيِّة وإنَّما القضية هي ذلك الاستلاب الاجتماعي البيِّنِ عند تناولِ موضوعٍ يفترضُ أن يكون سهلاً في جدليتهِ، ونقاشه، بحيثُ يأخذ حجمه الطبيعي الذي يستحقَّه، ولا يقفزُ فوق حواجز أُخرى لا ترتبطُ به كمثل القول: "إنكم إن تحدَّثتم اليوم عن اللونِ ستتحدَّثون غداً عن نوعيةِ اللِّباس فالأفضل لكم أن تسدُّوا منافذ حديثٍ كهذا.." هذا كلامٌ يكبحُ العقلَ عن التفكير، والرأي في التغيير فيما يتعلَّقُ بالعادات والتقاليدِ المتوارثة، والممارسات الاجتماعية لأن الاستلاب الفكري قد صوَّرها على أنَّها جزءٌ من الدِّين لا يجوز المساسُ بها، وأقامَ عليها حرَّاسها الذين لا يُعملون عقولهم ولا يريدون من أحدٍ أن ينقشَ -مجرَّد نقشٍ- في جدران المسلَّمات العتيقة التي سُوِّرت حول العقل الاجتماعي لئلاَّ يسيلُ هذا العقلُ فلا يُمكنُ ضبطهُ بعد ذلك ..!

يقول عماد يوسف في مقالةٍ له بعنوان "مفهوم الاستلاب العقلي، الفكري والثقافي رؤيا في نهج الاستلاب":لقد شهد التاريخ الإنساني، على مرّ العصور صوراً لاستلابات فكرية، عملت كالسيف القاطع في حياة الكثير من مجتمعات العالم وأممه، وغيرت مسارها التاريخي، والاقتصادي والسياسي. وربما تكون من المغالطات الفكرية الكبيرة، أن يدّعي البعض بأن أنواع الاستلاب ليست كلها سلبية بالضرورة، لا بل هم يغالون في طروحاتهم، ليثبتوا بأن الاستلاب الفكري قد يكون بناءً، ومن هنا يعملون على إلغاء كل ما يخالف طروحاتهم، ويوجهون الناس والمجموعات الإنسانية التي تقع تحت سيطرتهم، باتجاه هذه الفكرة ؟! وهذا الطرح طبعاً، هو بحد ذاته نوع من الاستلاب، حين تعمل على فكرة واحدة، وتدّعي بأن المجتمع لايحتاج غيرها، ولايجب السماح لغيرها بالوجود، أو الانبثاق، أو حتى التبلور، فهذا يكون أحد أهم الأسس التي يبنى عليها الاستلاب، وتحديداً العقلي منه، وبالتالي تسير الناس موجهة، غير مخيّرة، مستلبة، ومأخوذة إلى احتمالات الخير والشر على حد سواء، وفي كثير من الحالات تكون الأثمان على المستوى الفردي والجماعي باهظة كثيراً، تتجاوز ربما مقدرات مجتمع ما أو فرد ما على تحملها، أو الخروج منها معافى".

إن الاستلاب العقلي الذي يؤدي إلى الاستلاب الفكري يسوَّقُ بحجج مختلفةٍ لكن الغاية واحدةً سواءً أكانت سياسيَّةً، أو منسوبةً إلى الدِّين، أو محسوبة على السلوكات الاجتماعية المتوارثة، وللأسفِ فإن صور ذلك الاستلاب في بعض المجتمعات كانت فضيعةً في أحيانٍ كثيرة، وعواقبها مدمِّرة على المجتمع فهو كما يقول الكاتب عبدالرزاق عبدالحسين "مجرَّب وكفيل بإيقاف حركة الأمة وجعل عقلها الجمعي كفيفا، وغير قادر على إنتاج الفكر الذي يمكنه وضع حد للفكر المهاجم، لأسباب كثيرة، منها الفقر المادي والثقافي والعلمي، وحالة الإبهار التي يُصاب بها الأفراد المستلَبون، فضلا عن الشعور بالدونية إزاء الآخرين".

ذات مرَّةٍ أُرسلَ لي ما قيلَ إنَّه حديثٌ نبويٌّ، قرأته فرددتُ على الفور للمُرسل بأنَّه حديثٌ مفترى..! رأيتُ فيه الاستلاب الممارس على المرأة والتعامل معها على أنَّها – على خلافِ ما جاء به الدِّين – جَسَدٌ مقبورٌ في الأركانِ المظلمةِ المهجورةِ في البيوت، وعلى أنَّها سجينةُ بيتها لا يجوز أن تخرج منه حتى وإن مات أبوها..!! هذه الأحاديث المكذوبة على النبيِّ المصطفى الذي لا يسعُ الحديثُ هنا عن إكرامه للمرأةِ تريدُ إيغال الاستلاب الذي يمارسهُ الرجلُ على المرأةِ بحجَّةٍ دينية فلم ير أقوى من الحديث النبوي الذي صاغه كذباً وافتراءً ليرسِّخ الاستلاب..!

حتى في الأبيات التي قالها ربيعة بن عامر الدرامي:

قل للمليحة في الخمار الأسود ** ماذا فعلت بناسك مُتعبدِ

قد كان شمَّر للصلاة ثيابه ** حتى وقفت له بباب المسجدِ

إلى آخرها ذلك، لا أراها إلاَّ استلاباً -وقد يندهشُ البعض لذلك- فالغاية ليست وصفَ حسن وإنَّما تسويق للخمار كي ينفذ من السُّوق، فكيف لناسكٍ أن تسلبه مليحةٌ حجبَ الخمارُ عنه ملاحةَ وجهها..؟! كما أنَّ مآرب الاستلاب غير خافية في مقاصدها..! ويمكنني أن أسوق الكثير من صور الاستلاب قديماً وحديثاً ما لا يحصى ولا يعد..