حاسك .. ثروات مسلوبة من البحر والبر!

 

د. عبدالله باحجاج

زرنا الأسبوع الماضي نيابة حاسك التابعة لولاية سدح بمًحافظة ظفار، وهي تبعد 175 كيلومترا أو أكثر بقليل عن ولاية صلالة، وهي من أجمل وأروع المناطق؛ حيث تتمتع مثل ولايتها والنيابات الأخرى كحدبين، بشواطئ وخلجان ورؤوس جبلية وبحرية وتشتهر بموسم ثروة صيد الصفيلح الذي يطلق عليه عربيًا "آذان البحر" وعالميا "الألواني" ويتراوح سعر الكيلوجرام بين 50-70 ريالاً عمانياً، كما تشتهر بصيد الأسماك والشارخة والسردين.

وكانت كغيرها من المدن الساحلية في محافظة ظفار محطة تجارية لتجميع وتصدير اللبان إلى الأسواق العالمية في العصور القديمة عبر ميناءيها "سدح- حاسك" الواقعين على بحر العرب واللذين يتميزان بموقعيهما المميزين اللذين يشكلان حماية طبيعية وملاذا آمنا للسفن من العواصف، وبقدر ما يسعدنا زيارة هذه المنطقة الرائعة، إلا أننا نخرج من كل زيارة لها، بمنغصات كثيرة، منها ما هو دائم في كل زيارة، ومنها المستجد على كل زيارة، كمثال على الدائم، جبل الماء، وهو- أي هذا الجبل- يشير إلى "ناطف" وهو موقع عين ماء يعتلي قمة الجبل، ومعنى نطف- كما ترويه الروايات- هو تقطير الماء؛ حيث يتميز هذا الموقع باستمرار تساقط قطرات الماء منه طوال العام من الترسبات والتجمعات المائية الواضحة في قمته، لكنها تذهب هدرا، دون أية استفادة منها، مثلها مثل بقية مياه الشلالات والكثير من العيون في محافظة ظفار.

جبل مرتفع "ناطف" يتقطر منه قطرات الماء على مدار الساعة ومنذ عدة عقود، في سيفونية كلاسيكية من صناعة الطبيعة البكر، تخاطب الوجدانيات، وتجعلها تسبح للخالق جلَّ في علاه، لكنها عندما تنزل، تفقد وجدانياتها، وتتحول إلى موسيقى صاخبة، لأن هذه المياه إما تتبخر في الهواء أو تذهب في مجرى للشاطئ القريب منها، فلماذا لا يستفاد منها في إقامة حديقة متكاملة المرافق والخدمات، تضيف بعدا سياحيا جاذبا لهذه المنطقة خاصة ولمحافظة ظفار عامة؟ لمن نوجه هذا التساؤل، هل لبلدية ظفار أم لوزارة السياحة أم لوزارة الزراعة والثروة السمكية أم لمن؟ منذ أن زرنا هذه المنطقة لأول مرة في أواخر الثمانينات وحتى يوم الخميس الماضي، وجبل الماء- كما يسمى- ثروة مائية مهدرة رغم علم الكل، فكيف نراهن على الكل في نهضة سياحية أو اقتصادية؟ وجبل الماء شاهد عيان على رفض البشر لهذه النعمة الربانية؟ وهذا نموذج يمكن الاستدلال به مجددًا على أن كبرى مشكلاتنا ليست في قلة مواردنا ولا إمكانياتنا الاقتصادية، وإنما في العقول، فعندما توجد العقول المناسبة، من المؤكد أن تتحول مثل هذه الموارد إلى منتجات اقتصادية ذات عائد مالي كبير.

والمنغص المستجد لزيارتنا الجديدة لحاسك، هو استمرار تجاهل المؤسسات لثروات هذه المنطقة، ونخص بالذكر هنا، إقبال الوافدين على ممارسة صيد الأسماك ليس من على القوارب فقط، وقد تناولنا هذه الظاهرة في مقالات سابقة، ولا حياة لمن تنادي، لكن هذه المرة من على الشواطئ والخلجان عبر وسيلتي الخيط والسنارة، وقد شوهد العشرات منهم الأسبوع الماضي دون خوف من قانون أو رقيب.

وقد عبَّر لنا الكثير من هواة الصيد العمانيين- في الميدان- عن استيائهم من تصاعد هذه الظاهرة، إلى حد منافستهم، والتأثير عليهم، بحيث لن يجدوا لهم بسببهم موطئا لغزوهم لمواقع الصيد في حاسك، فهل يسمح القانون لهم بممارسة هواية الصيد دون ترخيص؟ إذا كان كذلك، فمن المؤكد أن هذا من أكبر الأخطاء أو الفراغات التشريعية، فالعدد كبير وفي ازدياد خطير، فلابد من تجريم هذه الممارسة دون ترخيص.

وقد شاهدنا كميات كبيرة من الأسماك التي يصطادونها في اليوم، وهذا يعني أن نية هؤلاء الأجانب من هذه الهواية غير المرخصة تتجاوز مسماها "الهواية" إلى التجارة، ومن المؤكد أنهم يبيعونها للمطاعم التي ينتمي أصحابها لصفتهم الوافدة، وهذا يؤثر على وضع الصيادين العمانيين سواء من حيث الإنتاج أو داخل السوق، وسواء كانت هواية أو تجارة، فالأجانب يمارسونها بالمجان، كهبة من مؤسساتنا الرسمية لهم، ويتوفر لدينا مجموعة صور التقطت ميدانياً الأسبوع الماضي تدلل بما لا يدع مجالا للشك على الطابع التجاري لصيد الأسماك من قبل الأجانب الذين ينتمون لجنسيات آسيوية، فأين أجهزة الرقابة الرسمية؟ فالصيادون العمانيون "بالخيط والسنارة" قد أصبحوا يعانون الآن مثل معاناة نظرائهم في البحر "أصحاب القوارب" من غزو الأجانب لهذه المهنة، فمن يحمي الصياد العماني؟

تلكم الصرخة ننقلها بصوت مرتفع من ألسنة الكثير من الصيادين "بالخيط والسنارة" الذين طلبوا منّا أثناء زيارتنا الأخيرة لحاسك، نقل معاناتهم من منافسة الأجانب في مهنة الصيد، وقد اكتشفنا أن وراء الكثير منهم -أي الصيادين- قصصا حياتية معقدة جدًا، تجبرهم على استخدام الخيط والسنارة من على الشواطئ والخلجان ورؤوس الجبال وحتى في عز الشمس من أجل تحسين وضعهم المالي في ظل الظروف المالية الصعبة التي يمر كل مواطن، وكل من يشاهد بشرتهم كيف تحولت إلى اللون الأسمر، سيدرك الأبعاد الخفية التي تدفع بهم لهجر صلالة والتوجه إلى حاسك التي تتواجد فيها الأسماك بكثرة، خاصة هذه الأيام التي تشهد موسم السردين، وعندما يعلم أن عائد الواحد منهم قد يصل إلى عشرة ريالات في اليوم فقط، سيتضح له مدى أهمية هذه الريالات المعدودة لمعيشة كل واحد منهم، وهذا في حد ذاته انعكاس لأوضاعهم الاجتماعية، وهذا العائد يرجع لمنافسة الأجانب، ولولاها لكانت عوائدهم مجزية، فكيف نحمي حقوق المواطن في ثروات بلاده؟

وقضية سلب الثروات البحرية، ليست حصريًا على حاسك فقط، وإنما نجدها في كل الولايات الواقعة على شريطنا الساحلي، لكن تظهر في ولايات ظفار الشرقية أكثر، والشويمية تقود هذه المسيرة المختلة- وقد تناولناها في مقالات سابقة- فلماذا يتم السكوت عليها؟ من له مصلحة في بقاء الوضع كما هو عليه؟ ولماذا الولاة ونوابهم في النيابات لم يحركوا بقية المؤسسات للقيام بدورها الوطني؟ وإلى متى سيظل صمتكم والمواطنون يعانون الأمرين، مر منافسة أجنبية غير شرعية، ومر تردي أوضاعهم المالية بسبب الظروف المالية العامة؟ فكيف نفسر هذه السلبية الشمولية؟