جبجات استثنائية سياحية مُتعاظمة.. لكنها تعاني؟

د. عبدالله باحجاج

جبجات.. إحدى نيابات ولاية طاقة الجميلة، وهى تجمع بين البيئتين الجبلية والبدوية، بها أراضٍ منبسطة حضراء على امتداد البصر، تُشرف من جنوبها على المحيط الهندي الذي يجاور شواطئه الفضية مدينة طاقة القديمة، وفي شمالها تشرف على الوديان، مثل وادي صعلفن.. وكهوف كثيرة كانت تستخدم للبشر والحيوانات، كما يوجد بها قمم جبلية مثل دهق اربيش.

وقد أصبحت جبجات متنفسا للأسر والمقيمين -على حد سواء- يزداد الإقبال عليها سنويًّا؛ سواء في فصل الخريف، أو فصل الصرب الذي يطلق عليه كذلك بالربيع، وحتى كذلك في فصل الشتاء، لكن يكون فصل الصرب -تسمية محلية- أكثر الفصول التي يزداد الإقبال على جبجات أكثر من أية منطقة أخرى في محافظة ظفار، وما يحدث هذه الأيام -وتحديدا منذ انتهاء موسم خريف 2018- لم يحدث من قبل؛ فالزائر لها هذه الأيام سيندهش منذ الوهلة الأولى بالطبيعة الساحرة -اسم على مسمى- حيث تنتشر أشجار الطلح المظلة، وهى شجرة مُعمِّرة تتوافر على ورقيات دائمة الاخضرار، ويمكن أن تعمر -كما يرى الخبراء- لأكثر من مئة سنة، وتتراوح طولها ما بين (2-4) أمتار، وتأوي إليها الأسر للاستظلال بظلالها الوارفة أو للاحتفاظ بخصوصيتها، وهذه الخصوصية ستنعدم تماما في مثل هذه الأيام، لحالة ازدحام المكان بالأسر بحيث لن يفصلها عن بعضها البعض سوى بضعة أمتار فقط، في مشهد يبهرك فضاءاته العامة، ويسحرك امتداد اخضراره، وتأسرك نسمات هوائه التي لن تجدها سوى حصريا في هذا المكان، لقربه من أربع بيئات متداخلة؛ هي: بحرية نسبيا، سهلية، جبلية، وبدوية، والبيئتان الأخريان الأكثر إحساسا بهما، لن تجد هذا التمازج بين البيئات الأربع سوى في نيابات ولاية طاقة المرتفعة فوق سطح البحر، وعلى رأسها جبجات التي تتفرد بمزايا استثنائية في الحسن والجمال؛ لذلك يقصدها كل عاشق للطبيعة، وكل باحث عن الهواء النقي ونسمات البيئات المختلفة.

فمن لم يزرها، عليه أن يشد الرحال إليها الآن، وفي أي وقت من اليوم، فهي تعيش الآن فصل الصرب -أي الربيع- الذي يأتي بعيد فصل الخريف مباشرة، وقد يستمر ما بين شهر ونصف الشهر وشهرين، ونعتبره أفضل من فصل الخريف، لماذا؟ لأن سقوط الأمطار أو الرذاذ في الخريف، قد يقللان من متعتك بهذا المكان، أو قد يحول الضباب الكثيف دون التوغل كثيرا إلى أعماقه، على عكس فصل الصرب الذي ينقشع فيه الضباب، وتتلاشي فيه الأمطار، وتظهر الزهور باختلاف أنواعها، والطيور بأشكالها المختلفة، وتحتجب الشمس عن الظهور استحياءً حتى تحافظ على استثناءات المكان في إطاره الزمني؛ لذلك تعيش جبجات الآن موسمها السياحي الاستثنائي، وسمعتها قد أصبحت تخترق الأسماع والأبصار، بل كل الحواس.. ومن زارها أو سيزورها، سيقول بكل لغات العالم: إنك لم تُنصفها أو تعكس لنا عن جمالياتها بمشاهدها ومشاهداتها، ولن يتمكن غيرنا من فعل ذلك، ولن تستنطق حتى الصور مقوماتها؛ لأن جمال جبجات وروحانياتها هي علاقة ثنائية مع زائرها، وهى تدخل في مناطق الشعور والإحساس التي يعجز أبلغ الواصفين وعباقرة الشعراء عن التعبير عنها مهما أجادوا؛ لذلك سيقول إنكم مقصورون في وصف جمالها، وأنانيون في الاستفراد بعشقها، فلم تقدموا لنا سوى الخريف، وصربكم إن لم يكن أحلى وأجمل منه، فلن يقل منه.

لكن وهذا الأهم، فجبجات الجميلة، هذه المعشوقة المتفردة في الحسن والجمال الذين تدركهما الحواس بمشاهدهما ومشاهداتها، وتحس بروحانياتهما غير المحسوسة، هذا المكان المتفرد في زمانه الآن، يُعاني من نقص الخدمات الأساسية كدورات المياه، ومن سوء التنظيم والتخطيط، ومشهد الازدحام الكبيرة على مرافق المسجد الصحية، لا يعكس وجود مؤسسات حكومية تُعنى بالسياحة، ولا بسلطة محلية تطالب بمثل هذه المرافق الأساسية لهذه المنطقة السياحية بامتياز، والزائر لها أمس سيظن أن كل أسر ولايتي صلالة ومرباط قد استقرت بهم الحال في جبجات، ولنا تصور الوضع هناك دون مرافق صحية. ومن هنا، نطالب وزارة السياحة وبلدية ظفار بالإسراع في توفير دورات مياه متنقلة في المنطقة، وهى متوفرة في صلالة، ومخزنة لكل خريف، فلماذا لا يتم نقل بعضها إلى جبجات، والمسافة الفاصلة بينهما أكثر من 60 كيلومترا، وقد كانت هذه القضية تستحوذ على اهتمامات الكثير من وسائل التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي، بعد أن أثارها الفنان القدير بوعدنان أحمد بن مبارك غدير من واقع معايشته لها ميدانيا، وقد زرناها مرتين متتاليتين، لكي نتعرف على الواقع ونعيشه وجدانيا، ونعبر عنه من مدركات الحواس الخمس، فهل ستتحرك الجهات الحكومية المعنية بقطاع السياحة الإقليمية في محافظة ظفار إلى توفير مثل هذه الخدمات الأساسية فورا؛ فجبجات ستظل مع استثنائيتها السياحية ربما لأكثر من شهر من الأن؟ وهذا يعد انتقالا للموسمية الخريفية من صلالة إلى موسمية الصرب في جبجات بولاية طاقة؛ فلماذا لا يُتعامل معه بهذا المنطق السياحي؟ وربما يتحتم على مؤسسات بلادنا التفكير بمثل هذه المناطق سياحيا وفق خصوصياتها الزمنية المختلفة.

مثل جبجات -التي أصبح سحرها يجذب الآلاف من الزائرين يوميًّا، خاصة يوميْ الإجازة الأسبوعية، وبروزها الآن بهذه الأهمية السياحية المتعظمة- يدلل على الطابع السياحي المميز لكل شبر في محافظة ظفار؛ سواء في البحر أو السهل أو الجبل أو البادية أو الصحراء. وهذه مقومات كَفى بها عوامل نجاح لإقامة اقتصاد وطني قوي، لكن أين لنا بالعقول والأطر التي تحوِّلها إلى منتوجات سياحية تُدر عوائد مالية مُعتبرة لخزانة الدولة، ويكون لها نعكاسات إيجابية على وضعية معيشة مجتمعاتها المحلية؛ لذلك فكل محافظة من محافظة بلادنا تحتاج جهازا إقليميا للتخطيط الاقتصادي والسياحي، يكون مرتبطا بحاكمية الإستراتيجيات الوطنية ذات الشأن. أما الإبقاء على التخطيط المركزي في بلد مُترامي الأطراف، وكل طرف إقليمي به من المقومات والإمكانيات ما يصنع للبلاد اقتصادا بحد ذاته ومن المنظور الإقليمي، فلن تصلح معه المركزية في التخطيط، أو شبه اللامركزية في التنفيذ.