لست أحفل بالذوق العام!!

د. سعيد الحارثي

 

في كتابها الرائع "داء إرضاء الآخرين" ترى د. هاريت برايكر أنَّ الذين يُعانون من داء إرضاء الآخرين هم أناس يقولون "نعم" عندما يرغبون حقاً في قول "لا". وهم بذلك يتجاوزون كونهم مجرد أناس لطفاء، بل يذهبون إلى أقصى حدٍ من أجل إرضاء الآخرين.

في الدقائق القليلة التي ستستغرقونها في قراءة هذه المقالة، سأبذل وسعي، تلميحاً، في ملامسة ما تعتقدونه حول تفشي داء إرضاء الآخرين كظاهرة تنتهك المبادئ وتُعرّي الخصوصية أكثر من كونها ناتجة عن سلوك حسن ولطيف يُستقى من الفطرة الإنسانية والأخلاق والتربية الحميدة. إنها الظاهرة الأكثر فتكاً بكينونة الأفراد في العلاقات الاجتماعية لتصيّرهم بالمُقابل وفق ما توجبه مشتركات "القسوة على النفس" من خلال تبني الذوق العام الذي يتطلب الكثير مما ينهك الأرواح والأبدان من مسوغات اللباقة والاحترام والأدب الزائف أو مزيج من ذلك، يطلق عليه "البريستيج"، والتضحية بالوجه الحقيقي للقيم النبيلة.

بالرغم من أنَّ الرغبة في مُجاملة الآخرين والجنوح إلى إخفاء كل ما نرى بأنه يُقلل من شأننا تستندان على فطرتنا الإنسانية، إلا أنَّ وجوب إخضاعها إلى معايير أخرى هو من الأهمية بمكان. فكل شيء إنما يحتمل قدراً محدداً. وإطلاق العنان للنفس في خدمة الآخرين وإرضائهم يُرهقها ويطمس على "هويتها وخصوصيتها"، وكلما برزت في الفرد منِّا هويته الخاصة، كلما زاد ذلك من قيمته وانعكس على القدر الذي يتوجب فيه على الأطراف الأخرى احترامه ومنحه الثقة التي تليق به.

إن مما يُؤسف له أننا بلغنا من مسالك طمس الهوية مبلغاً عظيمًا. وبكل جدارة تمكنا من جلد ذواتنا. وأصبحنا نحفل بالذوق العام في سكناتنا وحركاتنا ونحن نمارس شؤون حياتنا اليومية. فعلينا دوماً أن نقتني ما يليق بزملائنا في لقاءاتنا على المقاهي العامة أو في رحلاتنا وسفرياتنا، وقس على ذلك. وعلينا أن نكون مُهذبين أمام كل ما يتفوه به رؤساؤنا في العمل، وقس على ذلك. علينا أيضاً أن نرد الزيارة بهدايا ثمينة لابد أن نستدين مبلغاً من المال لشرائها، وقس على ذلك. علينا ألا نترك ضيفاً أو صديقاً في جلسة ما لمجرد سماع الآذان يرفع لموعد الصلاة، وقس على ذلك. علينا أن نُرضي أصدقاءنا في المجموعات على وسائل وصفحات التواصل الاجتماعي، وقس على ذلك. علينا ألا نصطحب إلى جلساتنا في المقاهي العامة إلا من يليق بنا، وقس على ذلك. والعار كل العار إن لم تكن الموضة ضمن "أولوياتنا" بكل لمساتها. فأجسادنا لها جذعاً وفكرنا لها شريعة ومنهاجا، وقس ثم قس على ذلك.

كتبت في وقت سابق في تغريدة نشرتها على صفحة تويتر ما نصه: "يضيع فكرك ويذهب صوابك وتتعاظم حيرتك عندما تضطرب أمام عينيك مشاهد الحياة لترى أن مدنيتها الدخيلة قد فتكت بقيمها الأصيلة، ويخالج شعورك سؤال غريب: هل نحن ننتمي لآبائنا أم لأبنائنا ؟!!".

إنَّ مما يحيك بشبابنا من داء إرضاء الآخرين هو ذلك التقليد الأعمى لكل شيء دون حد أو قيد من أجل الذوق العام. وكمجتمع عماني، وبالرغم من أننا لا نزال في فضاء "المرحلة الصفراء" من مراحل غزو العلامات العالمية للمقاهي والأزياء والموضة لعقر دارنا، إلا أننا بدأنا باكراً نتوجس من عِظم القادم. فالقدوة التي لم تكن في جسدها وروحها تتجاوز الأسرة والقبيلة، إذا بها تنتقل إلى مدارك الأفكار التحررية حتى أصبحت محددات القدوة الجديدة تقود أبناءنا كالخرفان، ولسان حالهم يقول "إلى حيث سار التافهون نسير". أسلوب حياة آت من أحضان العالمية المنفلتة بصناعتها وصنّاعها. وحقيقة الأمر أنَّ "داء إرضاء الذوق العام" بلغ منِّا مبلغاً لا نحسد عليه، فلم يعد الآباء يمررون قراراتهم ومبادئهم إلا وفق ما يقتضيه الذوق العام لأبنائهم، ولم يبق لمبادئ أولئك الآباء، فرادى أو جماعات، متنفساً في هذا الأفق الواسع الذي لا يُمكننا أن نراهن عليه في استدامة قيمنا ومبادئنا ولا حتى على علاقاتنا كتلك التي تقوم على صلة الدم، بعد أن أضحت أوهن من بيت العنكبوت.

أصبح الذوق العام في صورته المظلمة، هو المرآة التي يتجمل أمامها السلوك الخاطئ وينكسر داخل إطارها السلوك الفطري الحميد. وكل ذلك من أجل إشباع الرغبة في إرضاء الآخرين. تلك الرغبة التي تطورت روحياً وحسياً بحيث أصبحت الحاجة إليها ملحة كضرورة الماء والهواء. لم يعد السلوك الفطري يلازم النَّفس البشرية لصالح تجسير العلاقات الإنسانية الطبيعية التي ينبغي أن تتقاطع بين الأجيال، ولم يعد السلوك المكتسب يقوم من خلال الوعي الكامل وإدراك مقتضيات تطوير الأنسنة وتحسين حاجياتها الفعلية من منطلق الأولويات والأساسيات. بل وأصبح مصطلح السلوك المكتسب عارا على من عرّفه من علماء النفس. فالسلوك المكتسب بصورته الجديد لم يعد قائماً على وعي وإدراك ما ينبغي اكتسابه، بل على اكتساب كل سلوك تقع عليه العين.

إنَّ أخلاق ومعتقدات أبنائنا لا تزال في خير ولله الحمد، ولا يزالون يرغبون حقاً في قول "لا" ، وهم كذلك إن تنبهوا إلى أن "داء إرضاء الذوق العام" سيصرعهم ويمسخ مبادئهم حتى يجدوا أنفسهم مكبلين في أغلاله لا يستطيعون إلى كرامةٍ سبيلا ولا إلى حياءٍ دليلا. فيا أبناءنا رفقاً ثم رفقاً بنا وبأنفسكم، فليس عليكم إرضاء الذوق العام بمجرد التقليد، وسارعوا إلى تحرير مبادئكم وفقاً لفطرة الله التي فطركم عليها، وتنبهوا إلى أن "ما كل ما يلمع ذهباً"، وتذكروا أن "الحياء شعبة من الإيمان"، وإن كان ولا بد "فما هكذا تورد الإبل"!!، أصلحنا وأصلحكم الله.

sokoon05@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك