الكفاءات الوطنية قبل الولاءات الوظيفية

حمد بن سالم العلوي

نبي الله موسى -عليه السلام- عندما طلب من ربِّه أن يكون له وزير من أهله؛ فقد اختار أخاه هارون ليس لأنه أخوه، وإنما لأنه كفء لتحمُّل المسؤولية، وامتدح فيه صفات جيدة وأنه سيكون خَيْر مُعين له؛ وذلك في قوله تعالى: "وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي" (طه:32-29)، وكان ظنه واعتقاده في أخيه أنه سيشدُّ أزره ويعينه على إدارة القوم، ولأن الله عز وجل يعلم أنَّ هارون لديه القدرة على معاضدة أخيه، فشدَّ به أزره، وجعله شريكا له في المهمة الربانية التي كُلَّف بها موسى، والقرآن الكريم كله حِكم ومواعظ للإنسان، ودستور حكم وإدارة دولة، وهذا النظام القرآني هو الشرع القوي في إدارة شؤون الحياة البشرية، بشرط أن لا نحاول تطويعه لأغراض سياسية، بل هو يطوعنا لحياة صالحة لا فساد فيها.

وإن نبي الله زكريا طلب من ربه أن يهيِّئ له من يرثه من بعده؛ وذلك لديمومة النهج الصالح في الحياة، الذي يحفظ المسيرة من الفساد والضلال، والتشتت وتضارب الأهواء بين الورثة، فقال تعالى على لسان نبيه زكريا: "وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا" (مريم:6-5)، وقد استجاب له ربه ورزقه الابن الذي يتحمل مسؤولية الأمة من بعد أبيه، ولكن سبحانه وتعالى لم يُعطِ الحكم المطلق لكل السُّلالة النبوية، فقال تعالى في موضع آخر من القرآن:"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة:124). إذن، السلوك الحسن والقدرة على تحمل الأمانة من أساسيات القيادة.

إذن؛ من هاتين القصتين نأخذ الحكمة والموعظة، أنَّ عهد الله سيكون مقبولاً بشرط الصلاحية والإصلاح، أما المفسدون في الأرض من المتمسكنين والضعفاء، وإن أظهروا طاعة وتذللا؛ وذلك قبل استلام الوظيفة العامة، فقد يَحِلُّون نكبة على المؤسسة التي ينتسبون إليها، نظراً لافتقارهم للصفات القيادية، فيصبحون معرقلين للعمل، ومنفرين للعاملين في المؤسسة، ويشيعون فيها التحزب بالتكتلات بين "المطبلين"، وهم بذلك يخدمون مصالحهم الشخصية وحسب، ويسعون من خلال تملُّقهم إلى اطالة فترة بقائهم، حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بمصالح الوطن والمواطنين.

لقد شاع سِيط المطبلين والمعرقلين لتقدم النهضة في الآونة الأخيرة، وقل عدد أصحاب الكفاءات والقدرات الإبداعية، في بعض القطاعات، وسبب هذا الشيوع: التوصيات المؤسِّسِة لتلك التعينات في الوظيفة العامة؛ لأنَّ بعض صناع القرار، إما أنَّهم يفضلون من يسير بجانب الجدار، وإما أن لا يأتي ببديل أفضل منه، فيكشف سوءاته حتى ولو عن غير قصد؛ وذلك عندما يخرج بنهج جديد، فيه إبداعات وفكر متطور، وإن البعض يكبتون القيادات المنفتحة المتفتحة، ويسعون لتطفيشها، حتى لا يذيع سيطها، ويعلو شأنها، وهذا ما رأيته من مقاومة وتشويه لبعض القيادات الوطنية الحرة، التي أبدعت في تحمل المسؤولية.

إن أصحاب الولاءات يعملون بمثابة مساعد الفرملة في المركبة، فصحيح أنهم لا يتهورون في العمل، وإن بعضهم يعطل الجميع عن العمل، حتى مساعديه القريبين منه، فيجعلهم مجرد أرقام لتحليل الوظيفة، حتى يقال إن أهميته تقدر بحجم العمل، وعدد المساعدين له، فيظل ينفش ريشه على الناس، ليخفي قباحة عجزه عن تقديم إنجاز مهم، أو حتى إخفاء تخبطه في اتخاذ القرارات الخاطئة، وهي التي تهدر المال، ولا تتقدم خطوة إلى الأمام في العمل، وتُشيع التذمر في المؤسسة، ولا أعرف كيف سيأتي بنجاح ذلك الموظف المحطم معنويًّا، وبالتالي كيف سيتقدم الوطن في ظل كبت الكفاءات، أو إبعدها عن ساحة صنع القرار.

إن نبي الله يوسف -عليه السلام- أتى به الملك ليستخلصه لنفسه وليفسر له الأحلام، بعدما عجز كل الكهنة والمنجمين عن فعل ذلك، ولكن يوسف زكَّى نفسه لمهمة أكبر، فقال له أنت في أزمة اقتصادية كبرى، فاجعلني أحل أزمة الأمة أولاً، وأتَّجه إلى طلب العمل والإنتاج، ولم يطلب الجاه والمنصب، إذن يمكن للمرء أن يزكي نفسه لوظيفة ما، عندما يكون الهدف خدمة الأمة، ولكن الذي نراه اليوم أنَّ الوظيفة مكسب ومغنم وجاه ومال للأسف الشديد.

إن عُمان تستطيع أن تعتمد على ذاتها بذاتها في الكثير من الأمور، لكنها اليوم تبدو غير ذلك؛ فلا يعقل أن تظل عُمان تنتظر من الوافدين أن يُعلوا مجدها، ولا يمكن أن نسمح باستمرار العُقد الإدارية التي تؤخر المشاريع المنتجة، ولا يمكن أن نظل ننتظر التوجيهات دون أن يبادر المسؤول، فإذا كانت التوجيهات بضرورة التعمين، فلا يجوز أن نتجه لتعمين السائق والنادل وعامل القهوة والشاي، وإنما يجب أن نتوجه إلى الوظائف العليا، ولا أقصد هنا وكلاء الوزارة ومديري العموم؛ فهذا أمر مفروغ منه، ولكن عندنا البنوك والشركات الوطنية التي يديرها الوافدون إلى اليوم، وقد يكون العُماني فيها مجرد صورة أو محلل شرعي، أما الذي بيده القرار، فهو جالس خلف الستار.

إذن؛ لا بد من فك عقال التقدم، وأن يكون لمشروع "تنفيذ" دور بارز في هذا التقدم، وبالمناسبة أين ذهب هذا التنفيذ؟ وأين ذهب جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة؟ وأين صولات وجولات حماية المستهلك؟ أسماء لمعت ثم اختفت، ما هو السر الذي يجعل هذه العناوين الكبيرة تتوارى إلى الخلف؟ أليست هذه تساؤلات مشروعة؟! واقتصاد البلاد لا يزال يعاني من التحديات، فإن كان البعض يعلق الآمال على ارتفاع سعر برميل النفط، فهذا أمل خادع بالتجربة، وإذا كانوا سيعلقون الأمل على الضرائب، وجيب المواطن، فهذه كارثة بحد ذاتها!!

تُرى: هل فهم البعض دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصحابي العُماني مازن بن غضوبة، عندما قال في نهاية الدعاء له: "اللهم لا تسلط على عُمان عدو من غيرها"، وأخذ الموضوع على ظاهره، وقد سألت أحد العلماء عن معنى ذلك، فقال هذا الدعاء صحيح لأن العداوة لا تأتي من أهل البلد على أنفسهم؛ ففي الأمر بلاغة لغوية يا جماعة، فلا تحاولوا تطبيقه على الوطن. وفي الختام، ليس لعُمان مُنقذ من الأزمات، إلا الكفاءات الوطنية التي تكتنز في العقول فكراً إبداعيًّا لا حصر له، والمطلوب فقط التعرف عليهم، وتقريبهم في الوظائف، ورعايتهم بقوة، وهذه العقول هي التي ستستغني عن النفط وغيره، وحتى عن الوافدين في الأغلب، ومن يجرؤ ينتصر.