الذين لا يكبرون!

سلمى اللواتية

منذ أكثر من عشرين عاما، تعرفت على الذين لا يكبرون، حينها كنت في سني العشرين أتعلم كيف لا أكبر، وأحلم أنني حين يزداد الرقم التلقائي لن أكبر! كان الحلم يتحدَّث عن كل ما كنت أعرفه وقتها، عن الذين لا يكبرون؛ لكنَّ يد الرحمة الإلهية التي ساقتني إلى ذلك العالم غمرتني حتى القمَّة في عالم الذين لا يكبرون! في عالم يتزاحم فيه الذين يصغرونك ليقولوا لك إنك تكبرنا؛ فتُصر أنت على أنك لا تكبر، بدليل أنك ما زلت تجيد القفز والضحك بصوت عالٍ، والمشي على الحبل بتوازن، وما زلت تستمتع بسباق الركض مع كل الصغار هناك من حولك.
وسنة بعد سنة، بعد أن أكملت أنا عشر سنوات، كان كل الذين قابلتهم في اليوم الأول ما زالوا يحاولون ولا يكبرون!
أنا: .....، موزة بعدها على رأس العمل؟!
هي: أيوة بعدها، مثل أول وأحسن.
أنا: الله يعطيها العافية، كم سنة تو ثلاثين وفوق صح؟!
هي: أيوة أكيد كذاك.
وصارت قنديلا يضيء الدرب، ويقوي العزائم، دون أن تعلم موزة حبيبتي، لا أعلم لو أنك تقرئين مقالي وتذكرينني، أو تعلمين أنك بالذات المقصودة، المهم شكرا جزيلا لك.
ومرَّت العشرون كلمحِ البَصَر بكلِّ ما حملته من مشاعر ومواقف وآمال وآلام، و... و.... وسنة بعد سنة ينكشفُ سرُّ الذين لا يكبرون في أعماقي؛ فأشعر أنني لا أكبر، مع أن الصغار صاروا شبابا وشابات! آه نعم هو رَحيق شبابهم الذي سقيناه بكل الحب يصب ماءه السحري في أعماقنا فلا نكبُر، إنه طموحهم المتجدد كل صباح مع إشراقة الشمس على ربوع الوطن، هذا هو الذي ينثر علينا ماء الحياة فلا نكبر، إنه العطاء الكبير الذي روينا به كل براعم الوطن يُعمّر أرواحنا. بعد هذا البيان، لم تعد سرًّا هُوية الذين لا يكبرون، أليس كذلك؟! إنهم الذين يحيِّون علم الوطن كل يوم مع صغارنا.. إنهم المعلمون.. وشكرا مُجدَّدا أبلة موزة لو كنت تقرئين، فأنا لم أنسك يوما مذ عرفتك منذ أكثر من عشرين عاما!
....
قبل أيام مضت، كُنت في لقاء ساحرٍ مع مُعلمات إحدى مدارس الحلقة الأولى، لم يشدني شيء كما شدني بريق الأعين، كل الأعين تنتظر اليوم الأول من العام الدراسي، ولو لم أكن معلمة يوما ما لخجلت أن أقف أمام سيل النور الذي وهبني قوة الحديث! معهم تخجل أن تقصر، تخجل أن تنسى، تخجل أن تتعب، تخجل أن لا تمد يدك وكل أياديهم تظل هنا دوما ممدودة.
هذا المقال هو للمعلم فقط، لأقول له شكرا حين يحاول المحبطون أن يدفعوك بعيدا فترتدّ أقوى كأنهم صفعوا الريح فحسب، شكرا حين تأتي المواقف التي تحاول أن ترهبك فتتماسك كالجبل الشامخ، شكرا للحب الكبير الذي تزرعه في نفوس أبنائنا فيغدقونه سلاما علينا حين يعودون إلى البيوت، شكرا لحنانك الذي يصبغ جدران قلوبهم بألوان الإبداع الذي تجتهد أن تلوّن به يومهم، شكرا لأنك ترسم صورة الوطن في قابل الأيام كما تريد أن يعيش فيه أبناؤك، وكأجمل ما يكون.
وأقول له: الله الله في الوطن، الله الله في أجيالنا وأبنائنا، فسبحان من رفعك وجعلك أقرب للأنبياء بعلمك وجهدك وعطائك، فاعتنِ به، وزيّنه بالجديد ليبقى متألقا دوما، تأمل سِيَر الأنبياء والعظماء والعلماء فهي لك خير معين، ولا تبخل على نفسك بالاطلاع على تجارب معلمي الدنيا، فأنت تستحق أن تكون جديدا كل مرة، وأبناؤنا والوطن يستحقون منك ذلك أيضا، واحفظ الأمانة فإنها ستحفظك حتى تلاقي الله تعالى آمنا مطمئنا تشهد لك الأجيال أنك كنت لها بما ناسب زمانها.. بوركت يداك.
ليس سوى المعلم، نعم إنه هو فقط من يحدد مستقبل الوطن، فكلُّ التخطيط، وكل الأموال، وكل الجالسين بعيدا يتخيلون الموقف التعليمي ويفكرون في تطويره، كلها لا تسوى شيئا دون معلمٍ واع! ولأجل ذلك أقول لمن يخطط زائرا أو من بعيد، جربوا أسبوعا هناك في الميدان كي تعلموا الحقيقة، جربوا أن تعلّموا وتقفوا محل المعلم في الصف، حضروا الدروس واستخدموا الوسائل وابتكروا في الأساليب، جربوا حصص الاحتياط وطابور الصباح وكل تفاصيل المدرسة؛ ربما حينها تكون نتائج القرارات أكثر واقعية! إن كل الآمال والطموحات المأمولة سينفذها هؤلاء الصغار الجالسون على مقاعد الدرس وليس سوى المعلم يشكّل شخصياتهم؛ فأكرموا المعلمين! أكرموهم إعدادا، وإبداعا، أكرموهم تدريبا وتطويرا، أكرموهم إدارات كفوءة، ومديرين أكفاء يعون روح الإدارة، ومعنى التطوير في أنفسهم أولا، أكرموهم روحيا ونفسيا وفكريا، أكرموهم بقراراتٍ تليق بهم.. واعتنوا بهم، اعتنوا بطموحهم، بفرحتهم وشكواهم، اهتموا لملاحظاتهم وآرائهم، اهتموا بكل حديثهم؛ فهو حديث الواقع، اهتموا بهم فإنهم نعمتكم، اعتنوا بنعمتكم لأنها عطاء الله جلّ وعلا للوطن، وأيُّ عطاء أكبر من جنودٍ لا يكبرون! لا يهرمون! طوال العمر مرابطون على حدود الوطن يحمون قيمه ومبادئه من السقوط في وحل الرذيلة والفساد! اعتنوا بالذين لا يشيخون كي لا يشيخ الوطن!
-------------------
إلهام....
"لا أحد يعرف بالضبط، كل ما نعرفه أننا وعَينا على الدنيا وتفتحت أعيننا ونوح أمامنا، كبرنا وبقي هو شابا لم يهرم.. والأهم من ذلك أنه لم يتغير، لازال يحاول"!!!
"ألواح ودسر" - أحمد خيري العمري

s.allawati@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك