الوطنية.. بين الكلام والاستثمار

د. سيف المعمري


لا شَيء مِثل الوطنية الصادقة والحقيقية التي تَنبُع من أجل إعلاء شيء ثمين هو الوطن، وجعله دائما متقدما متفوقا مُتماسكا، لا يمكن أن تُضعفه اية تحديات أو عقبات، ومما يزيد الاستغراب أنَّ دولًا تمضي إلى شراء أفضل وأحدث الأسلحة من أجل حماية نفسها من الأعداء الذين يعتقد أنهم لا يمكن أن يهزموا إلا بهذه الأسلحة، وتنسى الوطنية السلاح الأقوى والجبهة الأكثر مناعة التي يمكن أن يُعتمد عليها.
فلا شيء يُمكن أن يقهر بلدا يحمل مواطنوه وعيًا قويًّا بدورهم الوطني، وواجباتهم في النهوض بوطنهم، لا أعرف لِمَ لا يثق البعض بالوطنية وما تحمله من قوة استثمارية كبرى يُمكن أن تُحْدِث تحولات كبيرة!! هل لأنَّ الوطنية شُوهت نتيجة تحولها إلى ظاهرة صوتية كلامية بلاغية رنانة يُردِّدها الجميع باختلاف مستوياتهم ومسؤولياتم وإمكاناتهم؟ ربما كان ذلك سببا في ضعف استثمار النزعة الوطنية، وربما كانت الإشكالية في التوظيف المؤقت لها، أي: استدعاؤها في مواقف وإشكاليات معينة دون تعميق الوعي بما يمكن أن تحدثه لو وُظِّفت بشكل دائم، ووُجِّهت بطريقة بنَّاءة في إنجاز مشاريع واقعية ثابتة شاخصة أمام الجميع، تُحفِّز الجميع على مزيد من العمل الوطني.. مشاريع لا يُمكن أن تتهاوى لأنها ليستْ خُطبة من الكلمات، ولا أبياتا مبنية من الشعر، ولا صُورة خيالية تُنْسَى حين يصحو النائمون من نومهم العميق، إنَّها وطنية تعمل كماكينة دائمة لا تتوقف وتنتج أجمل ما يُمكن أن ينتج في أي بلد، إننا بحاجة ماسة لاستثمار الوطنية كما تفعل بلدان عديدة عبر العالم.
إنَّ الذي يجعلنا نفتح النقاش حول قيمة مهمة مثل الوطنية، هو النقاشات التي تجري بين الفينة والأخرى، والتي يظهر من خلالها أن الجميع يتكئ على الحكومة في إنجاز المشاريع التنموية؛ مثل: المدارس والطرق والتوظيف ودعم الكراسي العلمية وتقديم المنح... وغيرها من المشاريع الضرورية للمواطنين ولإنعاش الحياة الاقتصادية وجذب السائحين إليها. ولكن لا أحد يتكئ على قيمة الوطنية رغم أنها مَوْرد مُتجدِّد يجب ألا ينضب، ويمكن أن يكون أكثر تدفقا في ظل الظروف التي يعلن فيها عن صعوبة توفير الموارد المالية لإنجاز مشاريع حيوية، لم نسمع أن الوطنية تعمل بشكل جيد حتى الآن، لم نجد رجل أعمال كبيرا أو مجموعة من رجال الأعمال يعلنون أنهم سوف يتحمَّلون المشاركة في إنشاء شارع أو ازدواجية طريق مثل طريق أدم-ثمريت، وهم يستمعون لكل النقاشات التي دارت نتيجة الحوادث أثناء فصل الخريف، مما قد يُؤثر على السياحة.
لم نسمع أحدًا يُعلن عن التكفل ببناء مدارس رغم أننا نشهد عودة مُتنامية إلى نظام الفترتيْن؛ مما قد يؤثر على جودة التعليم ومستوى تحصيل الطلاب، لم نسمع يومًا عن أحد تكفل بالمساهمة في كلفة التدريب والتأهيل والتوظيف للشباب الباحثين عن عمل، رغم أنَّ هذا من ملفات التنمية التي تقلق الجميع من حكومة وشباب، وتقود أحيانا إلى هدر في المورد البشري الوطني، لم نسمع عن أحد قام ببناء مكتبة أو مسرح رغم حاجة المجتمعات المحلية لكل تلك المرافق؛ لأنَّها تسهم في بناء الوعي وصقل المهارات واستثمار أوقات الأطفال والشباب بطريقة مفيدة وبناءة، فأين هي الوطنية التي نتحدث عنها ليلَ نهار؟! لِمَ لا نرى مشاريعها في كل مكان؟! لِمَ تظل دائما مجرد كلمات عابرة عبر الأثير؟!
لا شكَّ أن استثمار الوطنية يتطلَّب كثيرًا من العمل والعطاء المستدام، ونحن حين نطالب باستثمار الوطنية لأننا نجد أن مسؤولية المواطنة لا تقف عند عتبات الألسن، إنما تتجاوزها إلى التأسيس لمشاريع مفيدة ينجزها أفراد المجتمع بإمكانيات كل منهم؛ فمن يملك واديا من ذهب مسؤوليتها لا يمكن أن يتساوى مع من لا يملك إلا مكنسة يُمكن أن ينظِّف بها مرفقا عامًّا يمر عليه السائحون -مثل دورات المياه- ويأخذون منهم انطباعا سلبيا عن البلد، ومن يملك قدرة على جمع الناس وإقناعهم -نتيجة مكانة اجتماعية أو وظيفية، أو مركز اتخاذ قرار- على المشاركة في إنجاز مشروع في ولايته ليس كمن لا يتمتع بتلك المكانة، وما تلك إلا أمثلة على أن الناس يتفاضلون في قدرتهم على تجسيد الوطنية واقعا، واستثمارها لتعزيز قوة البلد ومكانته، ولا أحد معفيٌّ من ذلك إلا من أعفى نفسه من واجبات مواطنته، وليس من الصواب ترك هذا المورد والاتكاء على الحكومة في كل شيء؛ فهناك مشاريع تنجزها الحكومة، وهناك مشاريع تُنجز من خلال الترجمة الفعلية للوطنية؛ مما يجعل من الوطن شيئا ثمينا يَبذُل المواطنون من أجل نموه ونهضته وتقدمه أغلى ما يملكون.. إنَّ الخشية دائما أن يعتقد البعض أنَّ الوطن غالٍ فيعملون على بيعه بأكثر من شكل وطريقة.
الوطنية التي نَنشدها هي التي تُحدث ضجيجا دائمًا من نوعية المشاريع التي تنتج عنها، ولنرى من حولنا أن الوطنية حفظت كثيرًا من البلدان من التحديات التي واجهتها، ومن الحِصَارات التي فُرِضَت عليها؛ حيث لجأت إلى الاعتماد على نفسها وجهود أبنائها وعطائهم اللامحدود، فلم تعرف ركودا ولا تقشفا ولا نقصا في السيولة، وبدلا من أنْ يتَّكئ المواطنون على الحكومة، أو الحكومة على المواطنين، اتكأ الجميع على الوطنية المسؤولة؛ فتحوَّلت اللحظات الصعبة إلى لحظات ميلاد وطنية مختلفة بنَّاءة، لا أحد يتحدث عنها إلا الفعل على الأرض والنماذج التي تُجسِّدها، فهلَّا استثمرنا الوطنية بالطريقة المثلى؟.. سؤال يستحق التفكير العميق من أجل بناء تنمية مستدامة.