امتحان كبار المسؤولين

 

د. سيف بن ناصر المعمري

◄ هنا نستطيع أن نتلمس الخطى بشكل أفضل، ونستطيع أن نمضي للمستقبل بخطى واثقة، وهنا تصبح المحاسبة والشفافية ركنا أساسيا محركا للعمل العام

ليست بدعة سنكون متفردين بها، إذا أجرينا امتحانًا لكبار المسؤولين، وحتى لو تفردنا بها وكان لها نتائج إيجابية على التقدم في حياتنا ومؤسساتنا واقتصادنا.. فإن ذلك سيعطينا دور الريادة في هذا العالم.

نعم.. ماذا لو وضعت اختبارات سنوية أو فترية لكبار المسؤولين عندنا من أجل الاطمئنان على أنَّ مؤسساتنا في أيدٍ أمينة؟ وأن متخذي القرار لدينا هم الأفضل ليس بحكم آراء شخصية ولكن من خلال نتائج الاختبارات التي تجرى لهم؟! سوف نخرس كل الأفواه التي تخرج تنتقد كثيرا من السياسات والملفات التنموية، لن يكون لهم أي مبرر أمام شهادة الاختبار، ولن يزعل أحد من هذا الاختبار فالدولة عرضت الجميع للاختبارات الصعبة الطالب في المدرسة، والجامعة، والذي يتقدم للوظيفة، والذي يُريد أن يترقى فيها، والذي يُريد أن يحصل على بعثة، والذي يريد أن يحصل على إعانة اجتماعية، والذي يريد أن يؤسس مشروعاً، والذي يريد أن يطور المشروع، الكل رغم محدوية المسؤولية ونطاقها يختبر فلماذا المسؤول لدينا لا يمُتحن رغم جسامة مسؤوليته واتساع نطاقها؟

لذا لو أخضعنا المسؤول الكبير لامتحان سنوي، لتقرير كفاءته ومستوى ذكائه، وللتعرف على مستوى مهاراته في اتخاذ القرار، وسرعة بديهته، وقدرته على قراءة المستقبل، واستلهام الماضي، وإبراز  سعيه الحثيث على النمو المهني؛ حيث يُقدم أدلة على الورش التدريبية التي حضرها على نفقته أثناء الإجازة، كما يعلن عن الكتب التي قرأها من أجل تحسين مؤسسته، والدول التي قام بزيارتها للاستفادة منها في البقاء في مكانه، ويتحدث فيه عن فلسفته المؤسساتية والإدراية وكيف تبناها وما مدى نجاحها خلال السنة الأولى والثانية، وكيف يعمل على تقييمها والتغيير فيها من أجل أن تنجز مؤسسته أكثر، وكيف يُدير الموارد، ويصنعها من أجل تحقيق أهداف أكبر، وكيف يحول الموظفين لديه ويدفعهم للعمل، ويزيد من دافعيتهم؟ فإنَّ ذلك سيكون مردوا مهما للاختبار لدينا.

ولو ابتعدنا عن الجانب الفكري والإداري إلى الجانب الصحي، وتأثيره على أداء المسؤول الذي يطلب منه العمل تحت الضغط، والخروج في زيارات ميدانية، والتجول، والسهر على شؤون المؤسسة، وغيرها من المهام فإنّ اختبارا في المستوى الصحي، سيكون له نتائج مهمة في تسليم المؤسسات إلى من يتمتعون بمستوى صحي عالٍ لا يؤثر عليهم مهما كانت الظروف العملية، ومهما كانت الضغوط التي يواجهونا، وبسبب الوضع الصحي يمنح كثير من الموظفين التقاعد، أو يطالبون بإفساح المجال لغيرهم ليؤدي العمل على بشكل أفضل.

قد يثير الاختبار قلقاً كبيرًا سيما وأن المناصب لا تأتي إلا بعد دراسة وتمعن من أصحاب الشأن وصناع القرار، فلكل منصب هيبته وأيضًا امتيازاته، وليس من السهل التفريط فيه، حيث يتشبث به صاحبه كما يتشبث الطفل بوالدته، ولذا يُمكن أن يسمح لمن يخضعون لهذا الاختبار "بالغش"، ولن يعد ذلك خروجاً على القوانين، ولا على الأخلاق، فلو "غش" المسؤول من تجربة متقدمة فنلندية أو كورية أو يابانية أو ماليزية أو سويدية، ونجح في تطوير مؤسسته في ضوئها، وطوعها لاحتياجات بلده، ووفر لها كل الظروف لكي تنجح وتحدث تغييرا، وتكون علامة بارزة بين المؤسسات، فذلك يعد "غشا حميدا مفيدا"، لا يُمكن أن يقود إلى التعليم على الورقة أو التجربة بالقلم الأحمر، ولا يؤدي إلى تشكيل لجنة تحقيق للملابسات التي قادت إلى ذلك، أما الذي لا يحتاج إلى اللجوء إلى الغش فذلك بالفعل قادر على إنتاج تجربة إدارية نابعة من خبرته وعلمه ودرايته وبالتالي يحصل على تقدير كبير يجعله يجتاز الاختبار بتفوق.

وعلى أية حال، فإن الاختبار يفترض أن تشكل له لجنة عُليا مستقلة من كبار الذين حققوا مؤشرات تنمية عالية في بلدانهم، يقومون باختبار الكوادر المؤهلة لشغل مناصب، تحريريا وعمليا، ويطلبوا منهم تقديم سيرة عملية مؤطرة بالمؤشرات ترسل إلى ثلاثة مقيمين عبر العالم، ليحللوا ويقيموا ويحكموا ويعدون درجة، وبعد ذلك تجمع كافة التقييمات وتوضع الدرجة النهائية وتعلن نسبة النجاح للجميع، ولكل فرد، لو كانت النسبة مرتفعة فذلك مؤشر جيد للإبقاء عليه، ولم لو تكن كذلك فذلك مؤشر يبرر الاستبدال.

هنا نستطيع أن نتلمس الخطى بشكل أفضل، ونستطيع أن نمضي للمستقبل بخطى واثقة، وهنا تصبح المُحاسبة والشفافية ركنًا أساسيًا محركاً للعمل العام، ولا تخرج المناصب الكبرى من دائرة الوظائف الحكومية التي يجرى لها اختبارات ومحاسبة وتقييم، وسوف تقود هذه الاختبارات إلى جدية كبيرة جداً في الأداء، وإلى بذل أقصى ما يمكن من أجل الاستعداد للحظة الاختبار المنتظرة.. فالتجارب علمتنا أن الذين لا يختبرون لا يذاكرون ولا يكترثون.