عُمان .. المنارة البيضاء في البحر الأسود

 

مسعود الحمداني

قرأتُ فيما قرأت قبل أيام وريقات من كتابٍ قيد الطبع تم تداول مقاطع منه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وضعه كاتبٌ خليجي (مُتشدد) يدعى (سفر الحوالي) يُشير فيه إلى سلطنة عُمان بأوصاف وعبارات نابية، متخذا من المذهبية منطلقًا، ومن الجهل أرضًا، ومن الكراهية مسلكًا، والأدهى من ذلك أن هذا المؤلف الجاهل بكل أبجديات الاختلاف موسوم بأنَّه دكتور وأكاديمي وباحث وداعية (إسلامي) بارز، وهو أبعد من ذلك إلى ذلك.

ولكنه ـ رغم ذلك ـ ليس الوحيد (الشاذ) في فهمه المغلوط عن السلطنة ومُحيطها، وليس الوحيد في جهله الفكري بالآخر المختلف معه في الرأي، فهناك الكثيرون ممن يدينون بدينه، ويمشون على جاهليته، والذين يعتقدون أنَّ عُمان دولة غريبة الأطوار، لا تتسع لها الجغرافيا، ولا يهضمها التاريخ، والأكثر ألماً أنَّ مثل هذه الآراء لا تأتي من البعيد في المكان، ولكنها تأتي من القريب المشترك معنا في الحدود والعادات والتقاليد والتاريخ والمصير، والذين لا تفصلنا عنهم سوى كيلومترات محدودة، ورغم ذلك لا يكلفون أنفسهم عناء البحث والزيارة والتقصيّ ومعرفة جيرانهم بشكل حقيقي، بل هم كسالى بحثيا يكتفون في بناء آرائهم على قراءات من كتاب مذهبي، وآخر عقدي، وثالث طائفي، ويبنون عليها آراءهم، ويُعلنون من خلالها عداءهم ويكشفون وجوههم المذهبية القبيحة، ولو أنهم اقتربوا من جيرانهم وتخلّصوا من آرائهم المُسبقة، وموروثهم المزيف ـ كما هو المنهج العلمي الرصين ـ ، لوجدوا فيما يقولون اختلافًا كبيرًا، ولعرفوا أن مرتكزات السلم الاجتماعي في السلطنة أكبر من فهمهم، وأعمق من أزمتهم الفكرية والدينية التي يمرون بها.

لقد استطاع مثل هؤلاء المنغلقين فكريا ومذهبيا تأسيس قاعدة من الجهلة الذين يرون أن كل من خالفهم مذهبيًا إنما هم أعداء لله، ولذلك يستحلّون دماء المسلمين وأموالهم وديارهم، ويقاتلونهم باسم الدين، والدين منهم براء، وأسّسوا من خلال معتقداتهم المتشددة جماعات تعتنق التكفير، وتحل القتل، وتعتنق المذهبية العمياء، وتسير على القاعدة الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة) للوصول إلى دولة (الخلافة) المزعومة، والتي انتهت فعلياً قبل أن تبدأ تاريخياً..غير أنَّ ما يدعو إليه هؤلاء الواقفون خارج حدود الزمن ما هو إلا وهمٌ يعتقدون به، وكان الأولى بهم أن يدعوا إلى إصلاح حال المُجتمعات الإسلامية، والعمل على توحيد المسلمين والارتقاء بهم علمياً وفكرياً دون نظر لمذهبٍ أو طائفة بعينها، ودون إشعالٍ للفتن والحروب للفتك بأتباع المذاهب الأخرى، فتلك هي الخلافة الإسلامية الحقيقية التي ستعيد للأمة هيبتها ووقارها وعرشها المسلوب، وليس عن طريق الدعوة لدمار الديار ليحكمها مجموعة من الحمقى والملتحين الذين يعتقدون أنهم رسل الله في أرضه، وأنهم يملكون مفاتيح الجنَّة، وأنهم الوحيدون القادرون على إعمار الأرض، وهم  في الواقع أسّ الخراب، وقاعدة البلاء.

إن العالِم الجاهل أخطر على الأمم من كل آفة، فهو لا يحتمل الرأي الآخر، ولا يُطيق الاختلاف، ولا يرى غير ما وجد عليه آباءه وأجداده فسار على نهجهم، وعادى الناس الذين لا يؤمنون له ولآرائه، فأغلق على نفسه باب الكهف، ولم يفتح نافذة للنور، ونام وفي أحضانه كتاب مذهبي يسخط على كل المُخالفين له، وينطلق دون هوادة نحو تكفيرهم، وهو أحوج إلى من يهديه طريق الحق، ويبيّن له أن المسلمين إخوة في الدين وليس في المذاهب، وأن (اختلاف أمتي رحمة)، وليس نقمة، وأن آراء العلماء ما هي إلا قناعات أعتقدوها، وليس قرآنا يقتدى، وأن (رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، ولكن..على من تقرأ زبورك يا داوود؟!!..فالأفكار التي نمت في بيئة حاضنة للتكفير والتشدد والغلوّ في المذهبية لن تنتج إلا المنحرفين فكرا ورؤية وعلما..

وستظل عُمان منارة بيضاء في بحر أسود تهدي الضالين إلى ساحلها، رغم كل الحجارة التي ترمى بها من قبل الجاهلين بها، وستبقى نخلة باسقة طلعها التسامح، وأرضها السلام، وتربتها الحب..تردد قول المتنبي:

أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها  

ويسهرُ الخلْقُ جرّاها..ويختصمُ

 

Samawat2004@live.com