"الوردة البيضاء".. مجموعةٌ قصصيّة من الزَّمن المَنسي

 

 

 

الوردة البيضاء مجموعة قصصية، تسعى لاستعادة الزمن المفقود

كتابة فنية لكن غير نخبوية وتتجنّب الدخول في منطقة الاحتراف

شاعرية السرد، ولغة تصويرية تستعير لغة السينما في لقطات مكثفة

سعود الطائي يكتب لنفسه ولا يبحث عن بقعة الضوء في الوسط الثقافي

 

ناصر أبوعون

أن تكونَ أنتَ.. تلك غاية عُظمى لا يصل إليها إلّا زاهدٌ في بُقعة ضوء إعلاميّة تبهت شيئاً فشيئًا وتزول من وجدان النَّاس بموت صاحبها أو انزوائه حيًّا قسرًا في زاوية العزلة الإراديّة هروبًا من الصخب الكاذب، وأن يكون قلمك صورة لباطنك فهذا هدف نبيلٌ صعب المنال لدى سكان مجرة الكتابة؛ فكل كاتب يرسف في قيود كلماته التي يوظفّها لأغراض معلنة وخفيّة لا يطّلعُ على أسرارها إلا ربُّنا الأكرم "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ" والذي أقسم بـ"نٓ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ". واتساقًا مع هذا المبدأ يكتب سعود الطائيّ غيرَ آبهٍ بردود أفعال النُّقاد المتخصصين، ولاينتظر لفتةً من السائرين في الشارع الثقافيّ، ولا إطراءَ الجالسين على مقاهي الأدب، ولا اعتراف سدنة معبد الإبداع، ولا جوازَ مرور من حراس بوابة النشر، الذين يمنحون صكَّ الاعتراف الزائفِ والمنطوي على نوايا توظيفه لمصالحهم أو على الأقل ضمّه لشلّتهم ليُسبِّح بحمدهم ويشكرهم على تعميده وتطهيره من سطحية العوام والبسطاء وإدخاله إلى مجتمعهم الثقافي مبرأً من الخطايا.

وعن دلالات "الوردة البيضاء" المعنونة بها المجموعة وهو اسم القصة الأولى التي تلي "الإهداء"؛ فهو لا يحتاج عناء تأويل، ولا غوص ماهر في بحر المجازات؛ إنه بكل بساطة إشارة إلى الطلفة "بثينة" بطلة القصة، والبياض في طبيعته "يعكس جميع الأطوال الموجية لطيف الضوء المرئي" وهو المعادل الموضوعي لشخصية "بثينة" في علاقتها بأبيها، غير أنّ النهاية المأساوية التي فجعت الأب برحيلها سلطّت أشعتها على طيفين اثنين ومتناقضين كانا يتعالجان ويتصارعان دخل أجواء القصة؛ لينتصر في النهاية منجل الموت- المرتبط في ثقافتنا الشعبية بلون الكفن الأبيض- على إرادة الحياة بعد أن هوى على حين غرة فاجتث الوردة "بثينة" وزوت البراءة والنقاء، وكسف ضوء الشمس في رابعة النهار وأسدل أستار العتمة على قلب الأب.

الخصائص الفنية

يكتب سعود الطائي بحبر البساطة، ويسير على قضبان الخصائص الفنية في كتابة القصة القصيرة، ولا يدّعي التجديد، ولا ينسب لنفسه عبقرية كسر المألوف في الشكل الفني، ولا يُروّج للتمرّد والخروج على المعتاد ولا المتعارف عليه؛ إنه يكتب وفق الخصائص الفنية المتوارثة من بداية أنطون تشيخوف إلى الآن؛ فليتزم بـ"الوحدة" حيث تنطوي القصة على "فكرة واحدة" عمودها الفقري "حدث واحد"، ومركزه المحوريّ " شخصية أساسية" وصولا إلا هدف واحد نبيل. متقصدًا "التكثيف"حاشدًا له انتقالات نوعية من الجمل القصيرة المشحونة بدلالات وإزاحات لغوية تحيل القاريء إلى قاموس من المعاني الورائية المتخفية خلف كل مفردة. وعلى صعيد "البناء الدرامي" فنراه يمزج بين حيوية الحدث، والتقلبات النفسية للشخصية المحورية في كل قصة داخل بوتقة تغلي فيها كل العناصر تحت حطب الصراع بشقيه الداخليّ والخارجيّ.

فإذا ما أردنا القبض على عناصر القصة القصيرة في مجموعته فنجده يعطي عناية فائقة "للأسلوب الفني" ففي قصة "أُمنية عليّ الأخيرة" يستحضر الكاتب "القضية الفلسطينية" من خلال الحدث الرئيس، والأحداث المتفرّعة عنه والمتولّدة منه على هامش حياة صديقه الفلسطيني؛ الذي "يعمل في زمن ويعيش في زمن آخر" وقد وظّف "الطائيّ" عنصر "السرد" مستعينًا بالتصوير الفنيّ، والوصف المكثّف في شكل "فلاشات" تومض وتضيء، وتسرد مأساة التغريبة الفلسطينية حيث"كان عليّ يحمل في داخله تناقضا حادًا؛ فالبرغم من نشاطه وحيويته والتزامه بإنجاز الأعمال في وقتها، إلا أنه لم يكن ليقطف ثمرة جهده وعنائه، فغرفته المهملة لم تتغير، وسيارته الصغيرة لم تتبدل، ونادرا ما تراه في هندام جديد، كان يعمل في زمن ويعيش في زمن آخر، كان متفائلا في عمله، سوداويا في قرارة نفسه وأسلوب حياته، وبالرغم من ذلك كانت هناك لمسة إيجابية في حياته وسلوكه".

وفي مقطع عرضيّ مستقطع من قصة "سجادة مكّة" ينسج "الطائي" خيوط السرد الفنيّ المُنسلّ من بؤرة "الصراع الدّاخلي، ويضفرهما معًا في الحدث الرئيس، ثم يُدير عدسته في مشهد تصويري واقعيّ يستعير فيه بأدوات السينما والموسيقى التصويرية المتخيلة في ذهن القاريء مدعومة بكثافة بلاغية عمادها اللغة التعبيرية ومستثيرا غريزة الخوف من قصص الرعب، وحكايات الجن المستقاة من التراث الحكائي المتداول على ألسنة الناس وفي أسمارهم، حول العديد من البيوت التي هجرها أهلها في مسقط وغيرها من الولايات ولا يستقرّ بها مستأجرون، ولكنّ "الطائي" بارعٌ في جرجرة القاريء بخيط السرد، وإدخاله إلى حوزة القصة بصحبة الرواي العليم، فيزيد معدل ضربات قلبه وتسري القشعريرة في جسده، وترتفع مستويات هرمون الأدرينالين والكورتيزول" ارتمى على السجادة التي أحضرها من مكة فتراجعت السيدة العجوز وكشفت عن وجه خشبيّ ليس به معالم إنسانية، كانت عيناها غائرتان لا تتحركان، تنظران نحو "عامر"، سألته بصوت ضعيف: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ أجاب بصوت ضعيف: سمعت صوت نافذة وكأنها تُفتح، فقالت السيدة"لولا هذه السجادة لأخذتك معي إلى العالم السفليّ حيث أعيش. انظر من هذه النافذة ستجد أبنائي وأخوتي يرقصون تحت ظلال القمر رقصة الموت في ذكرى وفاة زوجي الذي رحل منذ شهور قليلة، نحن نؤدي رقصة الموت في كل شهر مرة عندما يكتمل البدر، وهذه الغرفة ليست لك، فخذ سجادتك واذهب إلى الغرفة الأخرى، ودعني أبكي على فراق زوجي وحيدة، وأعدك أنني لن أمسك بسوء طالما لم تخبر أحدا بما رأيته".

وعلى صعيد "الحوار" يزاوج سعود الطائيّ بين المنولوج الداخلي الذي يطرح من خلاله الهواجس النفسية للشخصية الرئيس في كل قصة ومن خلال الديالوج الخارجي يأخذ القاريء إلى مناطق الصراع المحتدة ويصعد به إلى ذروة التشابك الدراميّ، ومن القصص المثيرة على هذا المنحى "تاجر من ورق" حيث نجح في لضم "الديالوج" مع "المنولوج" في مشهد واحد وتضفيرهما في نسق واحد وإن شئنا الدقة نقول في جملة درامية واحدة لا تتجزأ".. في الطريق تزاحمت في ذهنه تساؤلات كثيرة،... وانتابته مشاعر إحباط بعد عمل مضن لعشرات السنين، ويرى صديقا يمتلك الملايين والحراس والمنسقات والمشاريع الكبيرة، خطرت له فكرة أن يتقاعد....، وقبل أن يبدأ في تنفيذ أفكاره السلبية، ذهب لزيارة أحد أخوته الذي بادره بسؤال غريب: لقد هرب جارك، شعر سيف بالشفقة لجاره المُسن الذي لايغادر منزله إلا لممارسة الرياضة كل مساء، فماذا يا تُرى ارتكب هذا الجار العزيز لكي يهرب من البلاد؟!"

أما من حيث الرؤية الفكرية التي ينطلق منها في كل قصة أو النواة الفكرية التي تدور في فلكها الأحداث، وتجري في سياقها الحوارات، ويتصاعد على أكتافها الصراع، وتتداعى اللغة في إحالاتها وإزاحاتها ومجازاتها لتنمو بها، حتى تصل إلى ذهن القاريء إمّا من المدخل التمهيدي وإما في نهاية القصة، وكلها بلا استثناء أفكار أخلاقية تولّدت من البيئة العُمانية. وأحيانا كثيرة يظل "الطائيّ" يُلحّ بهذه الفكرة في كل انتقالة وعند ناصية كل فاصلة، وفي التصاعد الدراميّ، وغالبا ما يكون حريصا على وضعها في عقل القاريء من "جملة عنوان القصة" المكتنزة بالدلالات والتي غالبا في تكوينها النحويّ جملة اسمية تشبه قطعة الدومينو الأخيرة تتكون "مبتدأ موصوف" و"الخبر مقدّرٌ" جوازًا"(الوردة البيضاء)(سائق المزرعة)(سجادة مكة)(بائع الليمون)(المحاسب الأمين)(غاسل الصحون)(سفينة الوهم)(صديقي بيير)(الطبيب القاتل) (أمنية عليّ الأخيرة). ومن ثَمَّ فعلى القاريء مشاركة الكاتب في القفلة النهائية، أو لنقل "المفارقة" التي توقظ وعي القاريء أوالورقة الأخيرة في لعبة "الدومينو" واكتشاف "خبر المبتدأ"  بعد انتهائه من قراءة القصة.

وفي الأخير يمكننا القول.. إنَّ الكاتب سعود الطائيّ في مجموعته القصصية "الوردة البيضاء" استطاع القبض على السمات الفنية للقصة القصيرة، وبناء الحدث بفطرية واعية لا تتقصّد البحث عن الاستراتيجيات الجديدة في الكتابة، واتباع الطرق المعقدة في البناء المعماري للعمل الفنيّ، وتوظيف اللغة في الإيحاء الدلالي، مرتكزًا على اختيار موضوعات متداولة، أو كما يُقال: "الأفكار والقصص على الطرقات"، لكن تحتاج من الكاتب اقتناصها، وإعادة تشكيلها قصصيًا وفق رؤيته ومذهبه الفنيّ إلّا أنّ سعود الطائي اختار بساطة البناء الفنيّ غير المركب في تنمية شخصيات قصصه، والانتقال السلس بين عناصر القصة التي تبدو في بنائها المعماريّ من الوهلة الأولى عادية جدًا ولكنها تنطوي على رؤى عميقة الدلالة.