عباءة بدوية في المول

زينب الغريبية

بينما كُنت في أحد المراكز التجارية الكبيرة في مسقط، لفت انتباهي أربع نساء بأعمارٍ مختلفة، منهن الكبيرة المسنة، ومنهن الفتاة الصغيرة، وجميعهن يرتدين الجلابية المطرزة على أسفل أكمام اليدين، وتطريز على منطقة الصدر، بالزري والكرستال، ثم يرتدين شيلة من الشيفون الأسود الشفاف، ويصاحبه برقع البدو الذهبي الغامق على وجوههن، يمشين بكل ثقة ويتكلمن بصوت عالٍ، فهذه هي سجيتهن.

ليس هذا الغريب في الموضوع، بل الغريب أنَّ جميع من كان يمشي أو جالسا على أحد أركان أو منصات البيع ينظر إليهن، ومن النساء من يؤشر عليهن بالبنان ويضحك، وأسمع تعليقات من هنا وهناك: ماذا يرتدين هؤلاء النساء؟ ألا يعلمن أنهن في مول كبير في العاصمة؟ كيف يخرجن بهذا المنظر؟ استغربتُ كثيرا من تلك التعليقات، ومن النظرات الموجَّهة إليهن، فكيف يمتلكون الحق لإطلاقها، إنهن بكل ثقة يمثلن ثقافتهن، وهي جزء من المجتمع العماني وأصالة معظم العمانيين.

فصور جدتي وأمي عندنا كانتا صغيرتين كانت بذاك الزي، لم تكن العباءة الحالية موجودة، ولم تكن الجنزات ولا التنورة ولا موضات الماركات العالمية موجودة، لِم تُصبح كل هذه الأشياء المستحدثة، والتي لا تمت بصلة إلى مجتمعنا، هي المقبولة والمعتادة، بينما لبسنا الشعبي أصبح منظرا بدائيا، لا يجب الظهور به في الأماكن العامة؟!

يظهر لنا الموقف صورتين: صورة النساء المتمسكات بهويتهن، ويمتلكن الشجاعة في الظهور بها رغم معرفتهن بما آلت إليه الموضة، ولكن وجود الموضة لا يبرر لهن إلقاء العادات والتقاليد التي وجدن عليها، وتمثيل البيئة التي نشأن فيها.

والصورة الثانية هي المضادة لها؛ حيث الفتيات اللاتي اعتبرن الظهور بالهوية هو شيء من التخلف، وأن مواكبة العصر هي بالظهور بما جلبت لنا الموضة، غير آبهات بالعادات ولا التقاليد وأحيانا حتى القيم السليمة يلقين بها عرض الحائط. وفوق ذلك ينظرن بسخرية لمن يتمسك بالهوية.

لم يقف الاستخفاف بالهوية والتقاليد عند الملابس والمظهر العام، بل تعدى لأشياء كثيرة في الحياة؛ منها: الأسماء التي تطلق على الأبناء، أصبح الاسم الدارج في البيئة دليلَ تخلف، ويبحثون عن أسماء رُبما يسمَّى بها أحيانا سكان المريخ، فلا يأبهون بأن إطلاق الاسم يمثل هويتي والبيئة التي أنتمي إليها.

حتى إن الأكلات الشعبية أصبحت تشعر بالغربة بيننا؛ فوجودها يعني الرجعية وعدم التطور، فكم نسمع نقدا من الزائرين لبلادنا بأنه لا يوجد مطبخ عماني، ربما لا يوجد لديكم مطبخ يميزكم، كيف لا يوجد، وبيئاتنا المتنوعة من الجنوب والشمال والشرق والوسط والغرب وما بينها، زاخرة بمختلف الأكلات من سلطات وحلويات ووجبات رئيسية ومشروبات شعبية وأخباز، إلا أنها بالفعل سترحل مع من اهتموا بها وعاشوا عليها.

حتى مبانينا أصبحت لا تراعِي البيئة الحارة التي نعيش فيها، فما هو جديد في عالم البناء أدخلناه، ويعتبر تجديدا وتطورا، دون النظر إلى مدى مُناسبته لبيئتنا، حتى إذا ما انقطع التيار الكهربائي لأي مشكلة كانت، أصبح من المستحيل البقاء داخل البيوت، ولا نجد مكانا نلجأ إليه،  فكله مصمم للاعتماد على التكييف والبرادات، كحياة عصرية بحتة، لا ربط فيها بين ما يمكن أن تكيف فيه بيئتنا للاستفادة منه ودمج الطبيعة فيه.

فاليوم.. نحن أمام جيل يحاول اللحاق بالركب، بطرد كل ما يمثل هويته، ليصبح شخصا آخر قد لا تستطيع معرفة هويته إلا إذا تلفظ بها، لست ضد التقدم والمضي مع العصر، ولكنني مع التمسك بالهوية في الوقت ذاته، فنأخذ المفيد والذي يسهل الحياة، ويتماشى مع العصر، ونتمسك بما يجعل منا عمانيين من منظرنا وأسمائنا وما نقدمه لضيوفنا، وما نمارسه في حياتنا، فلا يُمكن أن نعيش غرباء في بيتنا "عُمان" التي ستسألنا يومًا: هل أنتم حقا امتداد لمن عاشوا على أرضي؟!