110 ملايين نسخة

زينب الغريبية

تظلُّ القراءة دائمًا موضوعا جوهريا لا يُمكن تجاهله نتيجة كثرة الحديث عنه، أو نتيجة شعور البعض بالعجز عن إحراز تقدُّم في جعل الكتاب والقراءة أشياء مهمة لا كَمَالية في حياة مُجتمعاتنا، رغم اتساع الفجوة بيننا وبين المجتمعات المتقدمة ليس في عدد القراء، وإنما في الكُتب التي تُنشر، إلا أننا سنظل نحلم ونواصل العمل على تحقيق هذا الحلم، في توسيع رُقعة القراءة، وزيادة عدد القرَّاء، وجعل الكتب موضعَ نقاش دائمًا، شأننا شأن غيرنا من المجتمعات التي لم تعُد القراءة لهم شيئا تكميليًّا إنما أداة لتحقيق المعرفة والوعي، والنهوض والتنمية، وبناء إنسان واع مسؤول ومهذب يحترم القيم الإنسانية، ويعزز من درجة النبل التي في داخله.

وأرى أنَّ أهم مدخل للتنمية والخروج إلى أفق أرحب هو العمل على البنية المعرفية، وهذا ما أعمل جاهدة عليه من خلال دار النشر التي أقودها في كل هذه المعيطات التي تجعل الجميع من مؤسسات حكومية وأفراد لا يعملون على نشر الكتب وتشجيع القراءة، مُنطلقين من منظور مادي ضيق وهي قلة العوائد التي يمكن أن يُحققها العاملون على نشر الكتب في مجتمع تقل فيه نسبة الذين يقرؤون.

لقد هَالني عدد الكتب التي تمَّ تسويقها في فرنسا خلال العام 2017؛ حيث بلغ عددها 110 ملايين نسخة، ولا أعرف لو عملنا إحصائية بعد نهاية معرض الكتاب عن عدد الكتب التي يقتنيها أفراد مجتمعنا وقارناها بعدد الوجبات الخارجية من المطاعم التي يتناولونها وينفقون عليها، أتوقع أننا سنجد مفارقة غريبة جدا، أي أن الكِفة ستكون لصالح الإنفاق الغذائي لا لصالح الإنفاق الفكري والمعرفي، كيف يُمكن أن يكتمل وعينا ونحن لدينا هذه النزعة لتقوية أجسامنا، بل ربما لإضعافها بوجبات غير صحية، في حين لا توجد لدينا تلك النزعة لتقوية عقولنا وللاجتماع على كتاب معين نتدبره، أو نلخصه، كيف نستطيع أن نمضي إلى هذا العالم المتغير بدون معرفة!!! والقراءة هي الانفتاح على الحياة الإنسانية الفاضلة، التي تُعدل من طبائع الإنسان، وتجعله أكثر حساسية، وتحسِّن ذوقه تجاه الأشياء، كيف نحلم بجيل يُوازي أجيال المتجمعات الأخرى إن لم نحاول أن نجعل الكتاب في مكانة كتلك التي جعله الآخرون فيها، أو أن نقدره كما يقدره الآخرون مثل الفرنسيين الذين يبدو أنهم ينفقون على الكتب سنويًّا بشكل كبير؛ لأنهم يجدون فيها قيمة كبيرة لحياتهم؛ فمتى سندرك نحن تلك القيمة؟ ومتى سنعمل على تشجيع حركة النشر وتداول الكتب، والحوار مع مُؤلفيها، وتخصيص مساحات لهم في الإذاعات والتليفزيون والصحف المختلفة؟ متى سيحصل ذلك إن لم يحصل الآن في ظل المرحلة التي وصلت إليها بلادنا؟

إنَّني أطرح هذه الأسئلة، وأشعر أنَّ هشاشة البنية المعرفية لحركة الكتب ونشرها وتداولها، بل والنقاش حولها، يعدُّ نقطة ضعف كبيرة لدينا لابد أن نُوليها عنايتها، خاصة في ظلِّ التخطيط للمستقبل من خلال الخطط المختلفة تحت مظلة الإستراتيجية الكبيرة "عُمان 2040" هذه الإستراتجية التي تستهدف بناء إنسان عُماني مُواكِب للتحولات والتحديات، ولا يمكن المواكبة بدون قراءة واعية، وبدون دعم للكتب والمعرفة التي تولد منها، وبدون إتاحة مساحات كتلك التي تدعم بها المشروعات الأخرى لقيام المشروعات المعرفية التي نعمل عليها، هنا الآثار التي تنتج عن الدعم تفوق تلك التي يُمكن أن تنتج من مشروع تجاري؛ لأن وجود منصَّات واقعية للمعرفة في الولايات والمدن والأحياء بات ضرورة كبرى لتُواكب أحياؤنا الأحياء المعاصرة التي تنشأ في كثير من مدن العالم المتحضر، وحين يقال إنَّ الإنسان أولاً؛ يأتي السؤال إذن: أين المساحة المُخصَّصة للمكتبة في هذه الكتل الأسمنتية؟ هي دعوة أوجِّهها للمؤسسات المعنية بالشأن الثقافي، فحياتُنا الثقافية تشهد ركودا كبيرا، ونحن نعمل على تنشيطها بما نستطيع من إمكانات، نريد حوارا ونقاشا دائميْن لكي نفعِّل كل هذه الجهود التي تجعل من الحياة الثقافية منطلقا لتطوير بقية جوانب الحياة.