العلم الصحيح يخدم الدين الحق

"الأوقاف" توظف تقنيات العصر ومخرجات العلم لإقامة شعائر الإسلام

محمد علي العوض

عندما نادى كوبرنيكوس بمركزية الشمس ودوران الأرض حول محورها مرة كل يوم، وحول الشمس مرة كل عام، اتَّهمته الكنيسة بأنَّه مأفون، ينشُر الكفرَ بين الناس؛ لعدم ورود ذلك في الكتاب المقدس. وكان رد فعل الكنيسة ومحاكم التفتيش أكبر عندما أيَّد جاليليو هذه النظرية؛ فحاكموه بالسجن حتى مماته. وبعد قرابة 100 عام، اعترفتْ الكنيسة -على لسان البابا بنديكت الرابع عشر- بأنَّ النظام الشمسي لكوبرنيكوس يُمثل الواقع الطبيعي؛ وأن جاليليو -كما قال البابا بندكتيوس السادس عشر- "حالة عَرَضية سمحتْ لنا أن نرى مدى عُمق الشك بالذات في علوم وتكنولوجيا العصر الحديث".

ومنشأ الصراع بين العلم والكنيسة -كما يقول برتراند رسل- هو خشيتها من التعاليم الثورية التي يُقدِّمها رجال العلم، وتصدِّي العلم لدحض بعض المسلَّمات المسيحية.

لم يحفظ لنا التاريخ أي مواجهات أو محاكمات بين الإسلام والعلماء، كمحاكمات جاليليو أو إحراق جوردانو برونو مثلًا، الذي ذهب أبعد من نظرية كوبرنيكوس حين صاغ فرضية أن النظام الشمسي هو واحد من مجموعة نُظم تغطي الكون في صورة نجوم وألوهية ولا نهائية الكون، وأن هذه النظم النجمية تشتمل على كواكب ومخلوقات عاقلة أخرى. فقد كان الإسلام كما يقول مصطفى محمود "متسقا مع كل جديد في العلم"؛ فالقرآن الكريم أشار في آيات عدة لما ذهب إليه كوبرنيكوس وجاليليو عن دوران الأرض "خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار" (الزمر: 5).

وتتفق نصوص كتاب الله الكريم القطعية تماماً مع الحقائق العلمية المثبتة؛ فالقرآن أثبت كروية الأرض التي جاء بها "فيثاغورث" (570-495 ق.م) في قوله تعالى: "والأرض بعد ذلك دحاها".

والمتفكِّر في آيات الكون لا يرى تناقضا بين الإسلام الدين القيِّم والعلم المُحكم، بل هو دين العلم فأول آية نزلت من القرآن كانت دعوة صريحة للقراءة؛ بوصفها المفتاح الأول لاكتساب العلم، قال تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، والعلم في الإسلام جاء سابقا على العمل؛ إذ لا عمل بغير هدى وعلم ومعرفة "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات". والعلم هو ميراث النبوة حينما جعل الله "العلماء ورثة الأنبياء".

والدين الحق الذي لا تلبسه الخرافات هو حاضنة للعلم الطبيعي ولا يخالفه، بل إن العلم الصحيح جاء مطابقا له، ومتوافقا معه كما في كثير من الآيات الكونية؛ لاسيما آية: "وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ"؛ فببساطة هذه الآية الكريمة تشير إلى حقيقة علمية ثابتة، وهي انعدام الأكسجين في الفضاء؛ وذلك ما يؤدي لشعور الإنسان بضيق شديد في صدره. ومع أن القرآن الكريم ليس بكتاب علوم أو فيزياء أو تاريخ، ولكنه يقدم لوحات من كل ما سبق دليلا على إعجازه العلمي، وإثباتًا لعدم تعارضه مع العلم الطبيعي المحكم.

في كتابه الذي يحمل نفس العنوان، قال العالم الأمريكي موريس كريسون إن "العلم يدعو إلى الإيمان"، ويعضد هذا القول ما ورد في كتاب "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم" حين قال موريس بوكاي: "إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي لا يعارض العلم الحديث".

ولعلَّ إقدام وزارة الأوقاف والشؤون الدينية على توظيف تقنيات العصر ومخرجات العلم في تحري رؤية هلال رمضان يعضِّد ما سبق، حين أعلنت أنَّ يوم الخميس المقبل 17 مايو هو غرة شهر رمضان المبارك للعام 1439هـ. وأنه لن يتم قبول أي بلاغات حول رؤية الهلال؛ مُستندة في ذلك إلى ما أثبته علم الفلك من تأكيد نزول هلال شهر رمضان يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شعبان للعام 1439هـ قبل غروب الشمس في أغلب محافظات السلطنة، ونزوله في نفس وقت غروب الشمس في بعضها الآخر؛ وبالتالي تعذر إمكانية الرؤية بشكل قاطع؛ لمناقضتها الواقع وحقائق العلم.

إنَّ انحياز لجنة استطلاع الأهلَّة للعلم وللحساب الفلكي خدمةً لشعائر الدين لم يكن منبتا أو نابعا من فراغ، بل ضارب في أصالته؛ فقد أجاز الفقهاء الاعتماد على الحساب الفلكي في حالتيْ النفي والإثبات؛ ومنهم مطرف بن عبد الله من كبار التابعين، وأبو العباس بن سريج من كبار الشافعية في القرن الثالث الهجري، وابن قتيبة الدينوري. ومن أشهر من قال به في هذا العصر: الشيخ أحمد شاكر، والشيخ مصطفى الزرقا.

ولا يتعارض هذا مع منهج الدين؛ فقد أشار القرآن إلى الحساب الدقيق في حركة الشمس والقمر في قوله تعالى: "الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان" (الرحمن)، وقوله تعالى أيضا: "فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم" (الأنعام)؛ أي بحسابات محددة بدقة لا تشوبها أخطاء. وإذا كنا في مواقيت الصلاة -أحد أركان الإسلام- نعتمد على الحساب الفلكي، فلِمَ التشدُّد في إثبات هلال رمضان أو العيد، في وقت توفَّرت للناس فيه التكنولوجيا والراصدون والخبراء والمهتمون بموضوعات الفلك الشرعي والعلماء المتخصصون المؤهلون القادرون على تسخير العلم لصالح الدين، وحل ما أُشكِل على الناس في أمور دينهم ودنياهم، مادام لا يقدح ذلك في الدين ولا يطعن فيه؟

لقد أوجد الإسلام -كدين سماوي- حيزا ومساحة خاصة لأهل العلم والعلماء، بل دعا للاستعانة بهم وسؤالهم في ما يعرفونه من تخصص وعلم "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، وفي مقام الفتاوى وساحات القضاء يتم الاستعانة بالطبيب والمهندس وكل صاحب علم ليدلي بدلوه في قضية ما كالأحوال الشخصية والعدة واستنباط الأحكام الشرعية...وغيرها.

ولا مشاحة في تفسير الدين الحق بالعلم، وتفسير العلم الصحيح بالدين الحق؛ ففي الحالتيْن يقودنا الأمر إلى إعجاز علمي باهر، كما يقول خالد علال في كتابه "وقفات مع أدعياء العقلانية".

وقديمًا قيل: "الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها أخذها" من أيِّ منبع كانت؛ لأنَّ "العلم الطبيعي هو علم حيادي- عالمي- مُسخر لخدمة البشرية بشتى ألوانهم ومعتقداتهم، وتتشارك فيه أجناس من شتى بقاع الأرض، ويمكن فصله عن منشئه وفك ارتباطه بأية أرضية دينية أو سياسية؛ فأوروبا عندما نقلت من العلوم الإسلامية لم تأخذ معها الدين الإسلامي أو اللغة العربية، وكذلك المسلمون حينما أخذوا من الغرب علومهم الحديثة لم يكن هناك ما يحتم عليهم اعتناق المسيحية، أو فرض لغات الغرب على حساب اللغة العربية أو لغات البلدان الإسلامية الأخرى.

والحقيقة المجردة التي لا تنكرها العين من رمد أن العلم الصحيح يخدم الدين؛ لأن هدفه البحث عن الحق والحقيقة وجودة العمل، والأخذ بأسباب النجاح، كما حدث في معركة بدر؛ حين راجع الحباب بن المنذر رسول الله بقوله: "أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟"، فيجيبه الرسول الكريم: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فيقول له الحباب: "يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثم نغور -أي ندفن- ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون..)، فقال له رسول الله: "لقد أشرت بالرأي".

إنَّ سوء فهم العلم الصحيح يؤدي للتعارض مع الدين الحق، والنفور منه، وكذلك سوء فهم الدين الصحيح سيؤدي للتضارب مع الدين ومعارضته، والمطلوب منا فهم الدين الحق لتأييد العلم الطبيعي الصحيح، والعكس كذلك؛ فكلاهما يخرج من مشكاة واحدة ومصدر واحد هو العليم الخبير الذي علَّم آدم الأسماء كلها، والذي قال جل شأنه: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".