الترقيات أو التفريغ: لابد من قرار جريء

د. سيف بن ناصر المعمري

 

إنّ من أهم آثار سياسة التقشف التي أعقبت انخفاض أسعار النفط منذ ما يزيد على سنتين هو وقف الترقيات التي تعد حقا أساسيا لكل موظف ولا يمكن أن يجادل في ذلك إلا أولئك الذين لا يحتاجون للترقيات لأنّهم غير خاضعين لقوانينها، ولا لضغوطاتها الاقتصادية عليهم، ولو توقفت عنهم الامتيازات التي يحصلون عليها خلال هذه الفترة لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها.

والترقيات للذي يتعمق فيها هي ليست مسألة اقتصادية فقط إنّما هي مسألة اجتماعية تتوقف عليها كثير من خطط الإنفاق الإسري في المجتمع العماني، وتتوقف عليها قرارات مرتبطة بجودة الحياة وفي مقدمتها الإنقاق على الترفيه الذي له فوائد إيجابية على صحة المجتمع وحيويته وإبداعه، كما أنّ رفع الحظر عن الترقيات سوف يحرك الحياة الاقتصادية لكل من يفقه في الاقتصاد، فما يحصل عليه هؤلاء المواطنين من زيادات سنوية سوف ينفقونه في تمويل بناء أراض أو شراء مساكن، أو في تأسيس مشاريع، أو في تخفيف الضغط على الحكومة بتعليم أبنائهم في مدارس خاصة بدلا من تعليمهم في مدارس حكومية، وبالتالي تعظم الفوائد على الخسائر التي بسببها أوقفت الترقيات، وقيل أنها تثقل كاهل الموازنة ونحن لا نعرف حتى اليوم تحليلا دقيقا يوضح لنا ما الذي يثقل كاهل هذه الموازنة، هل ما يذهب للمواطن الذي يُحرك براتبه جزءا كبيرا من الحياة الاقتصادية، ويؤدي ما عليه من ارتفاع في الضرائب على الخدمات المختلفة، وترسم الخطط المستقبلية أكثر من هذا الدور للمواطن في المستقبل القريب بحيث يكون المساهم الرئيسي في الموازنة العامة للدولة، أليس من العدالة والمنطق والعقلانية في ظل مطالبة المواطن أن يؤدي واجبه الاقتصادي، أن يؤدى له حقه الاقتصادي الذي يمكنه من ذلك؟ سؤال يلح على الجهات المعنية أن تعيد النقاش في هذه القضية الشائكة التي يريد البعض أن ينهي النقاش حولها، ويتهم كل من يفتح النقاش حولها بعدم الوطنية، وهي التهمة الجاهزة التي تستخدم لمنع النقاش، وعدم الاستمتاع لرأي آخر ربما يفتح فرص للجميع للاستفادة من الوضع الراهن الذي لا يبدو أنّ هناك أية تحولات قريبة فيه.

لدينا وجهتي نظر حول مسألة الترقيات، وجهة نظر الحكومة التي ترى أنّ وقفها فيه مكسب لها يمكنها من تجنّب نفقات مرتفعة لا تقوى عليها في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، ووجهة نظر المواطنين الذين يرون فيها أنّها خسارة كبيرة عليهم فهم لم يفقدوا حقا من حقوقهم المكتسبة بحكم العمل الذي يؤدونه بل أيضًا اضطروا لدفع ضرائب على الخدمات لم تكن موجودة رغم ثبات رواتبهم، وبالتالي يبدو أنّ الحل المنطقي لهذه المسألة هو إمّا رفع الحظر عن الترقيات ومساعدة المواطنين على استراد مكسبهم الضائع، لأنّ الحكومة لا يمكن أن تنظر لخسارة المواطنين والضغط على موازناتهم كمكسب لها، فهي لا يمكن أن تقوى إلا إذا قوي مواطنوها، إما إذا ضعف مواطنوها اقتصاديا فذلك يعد إخفاقا لابد من معالجته بأي سياسات كانت، فالأزمات هي الفترة التي تحل فيها الإشكاليات وتولد فيها الحلول وليس العكس، وبالتالي إن لم يكن رفع الحظر عن الترقيات ممكنا لابد من تعويض المواطنين بمكسب يستفيدون منه، ويستفيد منه مجتمعهم ووطنهم على المدى الطويل، وأرى أنّ أحد الخيارات هو تفريغ الموظفين لتحقيق أهداف محددة أجد أهمها أولا تفريغهم لإكمال دراستهم فنحن نعلم أن هناك نزعة متزايدة لإكمال الدراسات العليا، أو لأخذ دبلومات معينة تعزز من مهارات الموظفين، وهناك كثير من المؤسسات تقف عثرة أمام هؤلاء الطامحين الذين لا يريدون من مؤسساتهم إلا منحهم بضع سنوات للدراسة، أعرف بعض هؤلاء الموظفين الذين أقدم لهم استشارات بحثية يدرسون خارج السلطنة ويعملون في نفس الوقت رغم أنّ الأماكن التي يوجدون فيها يوجد فيها العشرات من الموظفين الذين يمكن أن يسدوا النقص في أماكنهم. أمّا الهدف الثاني فهو التفريغ لإنجاز مشاريع خاصة إمّا كتابية للمؤلفين العمانيين أو تطوعية لأصاحب المبادرات التوعوية التي تعزز قدرات المجتمعات المحلية وتساعدها للتغلب على بعض إشكالياتها، أمّا الهدف الثالث فهو التفرغ للأسرة وهذا يمكن أن يوجه للنساء بشكل عام، ولمن يعاني أبناؤهم أو أمهاتهم أو آباؤهم من ظروف معينة قاهرة تتطلب بقاءهم معهم لإنجاز خطط علاجية، أو لتوفير دعم اجتماعي لهم، مما يعزز من تماسك المجتمع، ويقلل من الإشكاليات الناتجة عن ظروف العمل. هذه الأهداف الثلاثة يمكن أن تكون منطلقا لوضع سياسة للتفريغ تعوض عن غياب الترقيات، وتحقق شيئًا من العدالة للموظفين، وتسهم في استغلال الموارد البشرية وطاقاتها خلال الأزمة الاقتصادية الممتدة آثارها لسنوات قادمة، بدلا من هدر هذه الطاقات في مؤسسات يعلم الجميع أنّها مُكتظة بالموظفين أكثر من حاجتها، ويعلمون أنّ كثيرا منهم ومدراءهم لا يوجدون في مواقع العمل إلا في الساعات الأولى من الصباح بعد إنجاز واجب البصمة، فلِمَ نصرّ على إبقائهم ولا عمل ينجزونه؟ لِمَ لا نطلق سراحهم لإنجاز أهداف مستدامة توجد بعض التغيير في حياتهم؟

ليس الحل في أن نأخذ قرارات أحادية بدون مراجعة، فهذا غير مقبول إن كان على مستوى فردي، فكيف إن كان على مستوى حكومي، وقرار إيقاف الترقيات لابد أن يظل قرارا منتهيا لا سبيل لمراجعته، لأنّ مثل هذا التفكير يعبر عن ضيق أفق النظر لاستثمار المورد البشري، وإيجاد السبل التي تحقق له التوزان في المنافع التي يحصل عليها، كما تحقق للحكومة فوائد كثيرة على مدى أوسع. لنتخيّل كم عدد الموظفين الذين ستتاح لهم فرص الدراسة خلال هذه الفترة التي أوقفت فيها كثير من المؤسسات مشاريعها وخططها نتيجة عدم وجود الموازنات، هؤلاء سوف يعززون من مهاراتهم وإمكاناتهم وربما لاحقا يتركون المؤسسات نتيجة تفتح فرص توظيف أفضل لهم في القطاع الخاص أو خارج البلد، معظم هؤلاء سوف يُحركون المؤسسات التعليمية التي ستعزز أيضًا من ثباتها في ظل تدفق الدارسين إليها، هؤلاء سوف يرفدون الحياة العلمية والثقافية بكثير من الدراسات والمقالات مما يثري الحياة العلمية ويرفع شأن البلد خارجيا، هؤلاء سوف يحققون الطموحات التي يسعون إليها والتي يحول عدم التفريغ دونهم ودونها، كل هذه المكاسب وغيرها ألا تستحق قرارا جريئا خلال هذه الفترة؟

هذه دعوة ليست للمساواة كما سيفهما بعض ضيقي النظر ممن ينظرون في المرآة فلا يرون إلا أنفسهم، وهي ليست دعوة للتسيب والفوضى، وليست دعوة لشل الجهاز الإداري للدولة، إنّما هي دعوة لاستثمار الأزمة بدلا من خلق أزمات منها، والشطار هم الذين يحسنون الاستفادة من الظروف الصعبة والاستثنائية، ويخلقون عبرها أفقا ومسارات تحول الخسائر إلى مكاسب، ومثل هذه العملية لو تمّ المضي فيها يمكن أن تحدد لها شروط قواعد مثلها مثل أي سياسة لتحقيق الأهداف، لندع موظفينا يستثمرون طاقاتهم ويحققون طموحاتهم بدلا من أن يجلسوا على طاولات طوال العام دون أي عمل.