مسندم من مسَّها بسوءٍ سيندم

حمد العلوي

عندما ينظر الناظر إلى خارطة مسندم السياسية يعجب لشكلها المتناثر، ويظنُّ بأهلها أن قلوبهم شتَّى كتناثر كجغرافيتها العجيبة، ولكن الحال عكس ذلك تماماً، فسكان محافظة مسندم، لو نثرت وطنيتهم العُمانية على كافة محافظات السلطنة، لغمرتها بالوطنية الصادقة الجازمة في حب عُمان وسلطانها المعظم، وليس في هذا المثال انتقاص من قوة المشاعر الوطنية لدى باقي المحافظات العُمانية، ولكن في هذا توضيح للذين يستبسطون بسذاجتهم التعامل مع أهل مسندم؛ لذلك وجب نصح أصحاب أحلام اليقظة، بالبُعد عن اللعب مع هذا الشعب المخلص الوفي مع ذاته بصدق انتمائه؛ فالقبائل التي تنتمي لمحافظة مسندم، تستمد صلابتها من شمم الجبال الشاهقة، وعُمق ولائها من زرقة بحارها وهدوء خلجانها، وأن منبع شجاعتهم من أصالة معدنهم المتناسل بنقاوة جنسهم البشري، الممتد عبر قرون طويلة في التاريخ العماني البعيد، ويشهد بشجاعتهم وقيادتهم المهلب بن أبي صفرة (ابن مسندم).

لقد عرفت الإنسان في محافظة مسندم عن قرب، فهَالني فيض مشاعرهم الوطنية، وقوة اعتزازهم بأنفسهم ووطنهم، وإن مشاعر الانتماء لعُمان تاريخا وأرضا راسخٌ في النفوس؛ مما يجعلني أجزم بأنَّ هؤلاء القوم هم الصفوة الباقية، وهم الكثرة على غيرهم، وأن هناك القلة القليلة قد ذهبتْ وراء بريق المال القذر، والأوهام الخادعة فربما ندموا اليوم، أو أنهم سيندمون في القريب، ولكن من المحتم أنه لن يؤمن ببريق المال إلا من كان قد آمن به، ورحل يلهث خلف سرابه، أما صناديد الرجال المسندميون (نسبة إلى محافظة مسندم) فلن يتركوا شم الجبال حتى ينزل إلى وهاد الأرض، وهم يؤمنون بأن المنخفضات تخنق الأنفاس، وتحجب الرؤية عن الأفق البعيد، وكأن أبا القاسم الشابِّي قد تربى بين ظهرانيهم على جبال مسندم، وذلك قبل أن يهاجر إلى تونس ويلقي قصائد الحماسة هناك.

إن الشعب المسندمي العُماني الأصيل، لا تهزه الأهوال، ولا يلتفت للدعاية الرخيصة، مهما كانت تأثيراتها البراقة لحوحة على ذلك، ولو كان كما يحلمون فإنَّ أحلامهَم قديمةٌ على هذا الباطل، وإن أصبحت اليوم فجة تخلو من الحُلم والكياسة السياسية، وهم لا يضمرون خيراً للجار، وإلا كانت الجزر المزعومة أحق وأولى بالاهتمام من مسندم؛ وذلك قبل أن يجعلوا الصبية يعبثون بالألوان على الخرائط الجغرافية لما هو أكبر منهم، ولأنهم لا يقرأون ما خطه السابقون، فقد غفلوا الكثير من الحقائق من علم المعلوم، ولعلموا بالحكمة التي تقول: "احذروا بطشة الحليم إذا غضب"، فيومها لا ينفع المال ولا أبراج الكرتون، ولا تنجي أكاذيب مرسلة عبر الذباب الملعون، وتزييف الحقائق قد يُوهم الجاهلين بها من أمثال ناشريها، ولكن العارفين بالمعلوم لن يقبلوا التدليس على الحقائق الجازمة بالعلم الثابت عبر القرون، وعلى الهاربين من التاريخ إلى الحداثة أن يلوموا أنفسهم على ما فعلوا بأنفسهم، ولأنَّ الترقيع وإنْ أُريد به تغطية عورة، فإنه أبداً لن يدوم ولن يواري سوءة سوء.

إذن نعيد ونقول، اتركوا الآخرين وشأنهم، فليس كل لحم حُلو مهضومًا، فقد تكسر عظامه أسنان آكله، ويُحدث غصة في الحلقوم، وقد أصبحت غصات أهل الغرور لا تُعد ولا تحصى، ولكن لا عِبرة لمن خلا لُبه من الحكمة الواعظة للذات، وإن أهل الضلالة سيظلون يسبحون في غيهم بلا فواق، وقال الله تعالى عنهم: "أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" (فاطر:8)، ويقول علماء التفسير إن المشيئة هنا تعود للمخلوق، وليس كما يقول الضالون إن ضلالة الإنسان بمشيئة الخالق، لذلك يقيدون هدايتهم بمشيئته تعالى.. وهذا غير صحيح، ولو كان الأمر كذلك لأخرجهم من الحساب والعقاب، وهنا لا أنقل مواعظ لأهل الغرور والكبرياء في الأرض، ولكن أقول لهم إن الذي ظل يعتز بعُمانيته يومَ كانت عُمان ضعيفة متخلفة، فحتماً لن يتخلى الإنسان في مسندم عن هذا الاعتقاد الجازم الآن، وقد أصبحت عُمان اليوم هي والثريا يتنافسان علواً في السماء شهرة وسموًّا؛ لأنها -أي عُمان- أصبحت كعبة المضيوم، وبها مفتي الحكمة في السياسة، والحكيم في حل المعضلات الدولية، ومحج الساسة إليها دون كل بقاع الأرض.

لقد أصبحت مهمة عُمان اليوم معلومة عالميًّا، ومخزونها البشري لحفظ السلم العالمي بالتكامل والتعاون مع العالم، ونحن نعلم أن لا خوف على مسندم من الأطماع الخارجية الطارئة، وأن طمع البعض في موقعها الجغرافي، ليس إلا لتوسعة نطاق الشر والأذى للآخرين، والاستفادة من مخزونها البشري الشجاع في الحروب العبثية حول العالم، وحتى لو افترضنا جدلاً حصول ذلك، فإن العالم سيهبُّ محتجاً على عُمان لتسببها في تهديد السلم الإقليمي، إذا ما نحن فرطنا في مسندم وتخلينا عنها، وحتماً لن نفرط ولن نفكر حتى في شيء من هذا القبيل، وعلى الحالمين أن يستيقظوا من نومهم ويعوا واقع الحال جيداً.

لذلك؛ نقول للمهرِّجين بالقول حول مسندم، عندكم نجوم السماء أقرب منها، وحتى وإن زوَّرتم مقاطع فيديو، تظهرون بالتمثيل أنكم كنتم إمبراطورية عظمى، يلجأ إليكم الكبار لحل مشاكلهم المستعصية، وأنتم تصورن بساطة ذلك بخط بطرف العصا على الرمل تحلون المعضلات، والله إنها لنكتة ساذجة تُضحك من كان في مستواها الفكري، فسجلات العالم وليس سجلاتنا العُمانية وحدها، تشهد على الجميع كيف كانوا وما هو قدرهم بالضبط، وأساطيل دولتي اليعاربة والبوسعيد ما كانتا هكذا ليحتويها خور ضحل حسب التصوير، وتلك الأساطيل التي عرفها العالم أجمع، وكانت تهاب قوة بأسها دول عظمى، لا يجوز تصويرها بهذا الاستخفاف السمج؛ فكفاكم اللعب الصبياني في التمثيل، وإن كان قد مات من كتب التاريخ القديم بجوارحه.. وليس بأحلامه، فإن وارثيهم لم يكونوا مجهولين أبدأ، لتورثوهم أنتم في غيابهم، وهم لم يغيبوا لحظة عن حقهم وواجبهم المقدس، فما زالوا يتمسكون بالقيم والمبادئ، وهي لأكثر قوة وثباتاً من هفوات المال الزائل أمام صمود القيم والأخلاق.