أحاديّة الرأي

 

عبدالله العجمي

قيل لعليّ بن الحسين زين العابدين: إنّ الحسن البصريّ يقول: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنّما العجب ممن نجا كيف نجا!"، فقال زين العابدين: "أنا أقول: ليس العجب ممن نجا كيف نجا، وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله".

وتقول الكاتبة البريطانية كاثرين ارمسترونج في مؤلفها "مسعى البشريّة الأولى": "وربما وُجِدت مُدنٌ في التاريخ لا تحدّها أسوار، وليس بها جيوش، ولا مصانع، لكن لم توجد واحدة بدون معبد"، فالإنسان ومنذ بدء الخليقة، وبغض النظر عن أيديولوجيته؛ يمتلك في وجدانه بُعداً غيبيَاً مقدّساً يرتبط بإله، لأنّ فطرته تدرك وجود تلك القوّة الغيبية التي تدير كل ما هو موجود في هذا الكون، لذلك فإنّه عندما يجمد العقل فإنّه يصبح أسيراً للنص الديني دونما تقييم لصحته، فلا يستطيع بعد ذلك أن يميّز بين الخير والشرّ، بل يرى أن كل ما يقوم به صحيحاً استناداً لذلك النصّ.. فنرى بعض من يتعصّب لرأيه لا يتوارى عن ليِّ عنق نصّ معيّن حتى يشرعن ما يفعله، إذ لا يمكن لإنسان عاقل وسويّ أن يرتكب جريمة القتل بكل فخر واعتزاز، إلا عندما يكون مستنداً على نصّ ديني ملويٍّ يعلم الله مدى صحته.

إنّ الشرّ أول ما بدأ كان نتيجة لمحاولة أحادية الرأي واحتكار الحقيقة والتعصّب لمعتقد معيّن.. وذلك بردم كل مساحات التلاقي وإغلاق كل قنوات التعايش.. وهو اعتقاد مترسّخ في عقول غالبية معتنقي الديانات ومتّبعي المذاهب، وكأنّما هم من سيحاسب الناس يوم القيامة، وقد قرأت تحليلاً لأحد الدعاة المسيحيّين قبل فترة فيما معناه: أنّ من سيدخل الجنة في يوم القيامة لا يتجاوز العشرة من كل مليون نسمة! وللعلم فإن ما ادّعاه هذا الداعية يردده اليوم دعاةٌ يهودٌ وبوذيّون بل وحتى مسلمون. ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد بل تعدّاه إلى ما أبعد من احتكارٍ لتلك الحقيقة، تعدّاه إلى تراشق التّهم بالضلال والانحراف، ثم وصل الأمر إلى منعطفٍ خطير بإقصاء الآخر بل ووجوب قتاله، وهو أمرٌ خطيرٌ يجعل وجود كل من يعتقد بهذا الاعتقاد يُعتبر تهديداً لبقية الطوائف.

إلى هذا الحد والأمر في حدوده النظريّة هو مجرد اعتقاد قلبي فقط، لكن المصيبة تكمن في الإيمان بنصوص تستبيح دم من لا يعتقد بما يعتقد به صاحب هذا الفِكر، بل وإن لم يقتله ويقضي عليه فسيحلّ عليه غضب الربّ، وكأن الله (السّلام) يأمر بالشرّ والعياذ بالله، ألا يعتبر ذلك صناعة للشرّ باسم الله؟

ولكي نكون منصفين، فإن هناك دوافع أخرى قد تشترك في صناعة هذا الشر، فأنظمة الاستبداد تستغلّ الدّين أيضاً لعلمهم أن هذا الطريق هو الأنفذ والأسرع لتخدير عقول الشعوب، فيُستغَلّ في تأصيل النصوص لتصنع منه شراً، وهو أمر جعل كثيرا من النصوص الدينية مرتعاً خصباً للتدليس والوضع، بما يناسب أهواء النظام الحاكم، وقد فصّل هذا الأمر الشيخ أحمد الخليلي في كتابه: "الاستبداد".

وقد مر الإمام علي بن أبي طالب في إحدى معاركه على كنيسة قديمة كان أحد أصحابه يبحث بها عن مكان ما ليغتسل فيه ويقضي حاجته، فنهاه أمير المؤمنين عن هذا الفعل في هكذا مكان، فقال له الرجل: ولكن هذا مكان لطالما أُشرِك بِالله فيه. فرد عليه الإمام: بل لطالما عُبِدَ الله هنا.

فإذا كان الله تبارك وتعالى هو من خلق لنا هذا العقل وبه سيحاكمنا، فإن العقل يعذر صنفين من البشر: من هو جاهل مقصّر، أو مجتهد مخلص، لذا يجب علينا أن نعيش ثقافة العذر للآخر، وإن كان ما نؤمن به هو الحقيقة المطلقة حسب اعتقادنا، ولنتذكر أن "الطرق إلى الله كعدد أنفاس الخلائق" ولنستذكر قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبّئكم بما كنتم تعملون" [المائدة 105].