المستثنى بـ(إلا) وإشكاليات التأريخ العربيّ

عبد الجواد خفاجى – ناقد وروائي مصريّ

 

الاستثناء باب واسع في النحو العربي، وربما نحن مضطرون ـ من باب الإخلاص لتراثنا ـ أن نقتدي بالنحاة، الذين قسموا الاستثناء بالنظر إلى أداته، فوجدنا تحت باب الاستثناء: " المستثنى بإلا " و " والمستثنى بغير وسوى" و "المستثنى بخلا وعدا وحاشا" وإن كنا من باب الإخلاص لحاضرنا أيضاً مضطرين إلى التركيز على الراهن العربي باعتباره وعاءً لجملة الاستثناء نفسها. ليس غريباً أن يكون الزمن وعاءً، وإلا فما هو التاريخ؟.
سؤال لا يبدو صادماً.. لكنما الصدمة أن يكون التاريخ نفسه هو المستثنى، أو أن يبدأ درس المستثنى هذه المرة من كتب التاريخ لا من كتب النحو.
 لماذا إذن التاريخ هو المستثنى بإلا ؟ سؤال لا يبدو صعباً، وإن كان مفاجئاً، فـ"إلا" هي أول الأدوات، والتاريخ أيضاً هو أول ما يستثنيه العرب.. فما بين مقولتين يحار المرء إلا أيهما ينحاز: العرب لا يقرأون التاريخ الحقيقي، العرب حقيقة لا يقرأون التاريخ، وإن كان كلاهما مرٌّ، وما أمرُّ من الحقيقة غير الضلال، وما أمر من الحقيقة غير الجهل بها.
على أن الأمر لا يجب أن ننتهي به عند ضرورة قراءة التاريخ من باب الإحاطة المعلوماتية فحسب، أو لمجرد الحفظ والاستظهار، فما فعل القراءة غير الاستبصار، وما فعل القراءة غير استخلاص العبرة، وما بعدهما غير فلسفة التاريخ نفسه.. وهكذا هي  القراءة في جوهرها: كشف واستبصار ثم الحكمة.
أيُّ حكمة إذن أن تُستثنى مادة التاريخ من بين المواد الدراسية التي يدرسها أبناء ثلث الدول العربية؟ على أن الثلثين الباقيين لا يدرسون التاريخ حقيقة، فلربما هم يدرسون مادة  تحمل المسمى وتخلو من محتواه، التاريخ عندهم ـ غالبا ـ هو تاريخ آخر قبيلة استولت على الحكم، أو تاريخ آخر حاكم صنع انقلاباً أو ثورة أو تاريخ آخر حزب (مافيا) استبد بالحكم، أو تاريخ آخر حاكم أمر بإعادة صياغة التاريخ.. ومن ثم فأبناؤنا حقيقة لا يدرسون تاريخهم، هم يدرسون ما تمَّ تصنيعه لهم تحت مسمى التاريخ.. لكأننا إذن مغيبون عن تاريخنا، أو لكأن تاريخنا هو المغيب.. ليس هذا ما يهم ما دامت المحصلة واحدة.. ما يهم هو السؤال: أين ذهب التاريخ؟.. لماذا غاب التاريخ وحضرت الهرطقة السياسية؟.. لماذا يولد أبناؤنا ليأكلوا من المطبخ السياسي وحده؟
قد يكون غريباً أن نعي أن تاريخنا هو الهرطقة نفسها.. ولم لا؟ ما دام رجال الأكاديميات العربية هم حُرّاس الخطاب السياسي الرسمي، وما دام تعيينهم يبدأ من مكاتب الأمن والاستخبارات، وترقياتهم تبدأ من ملفات أمنية وليست علميّة؟.. قد يتفاءل البعض أن في جامعاتنا أقسامًا  متخصصة في دراسة التاريخ، بَيْد أني لست متفائلاً البتّة، ربما لأنني لا أثق في الأكاديميات العربية على عمومياتها وبمختلف تخصصاتها، فهي مهمومة بمشكلات روتينية وإدارية تغمر اهتماماتها العلمية والبحثية، ولا توجد جهة بحثية عربية حقيقية تحترم نفسها وتقول للناس الحقيقة، أو ـ على الأقل ـ تبحث فيما يفيد الناس أو يمت لاحتياجاتهم الحقيقية الراهنة، غير أنها لم تقدم على مستوى الخمسين عاما الأخيرة ـ على الأقل ـ  ما يمكن أن نباهي به دولياً في أي مجال علمي.
نحن نعي  أن أقسام التاريخ خاضعة للمطبخ السياسيّ، الذي يمكنه أن يركِّز على مساوئ الحكم العثماني دون أن يشير إلى أنها هي نفسها مساوئ الحكومات العربية الراهنة.. أو يركز على الصراع العربي الصهيوني لأن الحاكم قال: سنحارب إسرائيل ومَن وراء إسرائيل، ثم يُستثنى هذا الصراع من  محتوى المادة لأن الحاكم عقد معاهدة صلح مع إسرائيل.. كيف يمكننا أن نثق في عقلية مؤرخ عربيّ يذكر لتلاميذه أن الجمهورية قامت سنة كذا ميلادية، دون أن يكون واعياً أنه يتحدث عن خرافة يكذبها الواقع.. كيف نثق في القدرات العقلية لرجل تاريخ عربي يتحدث لتلاميذه عن ملوك الطوائف وسقوط الأندلس دون أن يكون واعيا أن خطوط التاريخ ليست مستقيمة، وأن ابتداء محيط الدائرة هو منتهاها، وأن التاريخ يعيد نفسه، وأنه حقيقة يتحدث عن واقع عربي راهن..  كيف نثق في رجال هم مشغولون الآن بتفريغ كل ما يغضب الكيان الصهيوني وأمريكا من موضوعات تاريخية يشملها منهج التاريخ؟ كيف نثق في رجال مهمتهم إعادة صياغة التاريخ بتكليف وِفقَ وجهة نظر أحاديّة؟..  كيف نثق في رجال يقدمون حكمة السُلطة المتغلّبة بالاستبداد والاستعباد على الحكمة التي يمكن أن يستخلصوها من التاريخ الذي يدرسون؟ .. على أنني في حِلٍّ من التطرق إلى الاهتمامات الساذجة بدراسة الكتب العربية الملوّنة كمواد تاريخية معاصرة.. على أنني لست بحاجة للقول إنهم معنيون بتحقيب التاريخ وتجزئته، أكثر من عنايتهم باعتبار التاريخ الإنساني رزمة واحدة.. غير إن آليات التعليم أساساً قائمة على الحفظ والاستظهار أكثر من كونها قائمة على التحليل والاستنتاج، ومن ثم فدراسة  التاريخ تعني التركيز على العنصر الحكائي، ومن ثم لا فرق بين التاريخ وألف ليلة وليلة؛ فكلاهما مادة مناسبة للتسلية، وكلاهما صالح للحكي والتسرية.
المفترض أننا لسنا معنيين بتاريخنا فقط أو هكذا يجب، لأن تاريخنا ليس منفصلاً عن التاريخ الإنساني برمته.. فما بالنا وقد حصرنا مادة التاريخ ومحتواه في آخر (وجه) اعتلى سُدّة الحكم، وعكفنا على استظهاره، ولا أقول: تأمله أو استقرائه؟.. وما بالنا نسمي كل وجبة  للتاريخ نلوكها بـ"الحديث"..  صحيحٌ إن كل حقبة هي حديثة بالنسبة لسابقتها، لكن إشكالية "الحديث" عندنا باتت مضحكة، فالذي قرأ مادة التاريخ قبل سقوط نظام صدام بشهر سيجد على الغلاف" التاريخ الحديث للعراق" أو تاريخ العراق الجديد" وهما لاشك ما تحمله عناوين كتب التاريخ نفسها بعد سقوط نظام صدام، مع اختلاف المحتوى.. ولا أقصد بالمحتوى؛ الأحداث التاريخية نفسها وإنما قصدت إلى اختلاف منظور الرؤية التأريخية.. فالكتب الأولى تركّز على إبراز صورة صدام البطل حامي البوابة الشرقية وصانع العراق الحديث، في حين أن الثانية ستركز على صورة صدام الهادم لكل القيم والأخلاقيات ومدمر العراق الحديث.. الأمر سيتأكد معه أن كلمتي"التاريخ" و "الحديث" كلمتان ـ عربياً ـ تعنيان الهرطقة السياسية، وتعنيان أن تحديث التاريخ عملية رخيصة إن لم تكن دنيئة، خاضعة بالدرجة الأولى لأهواء الساسة، فضلاً عن مجّانيتها إذ يمكن أن تتم بنجاح انقلاب سياسي في غفلة من حاكم ما، الأمر لا يعدو كون التأريخ مهمة مناسبة ـ بفضل هؤلاءـ  للنفاق السياسي؛ فالذي قرأ التاريخ المصري قبل 23 يوليو في مصر بأسبوع واحد لا يقرأ المضمون نفسه الذي يقرؤه بعد رحيل الملك فاروق بأسبوع واحد، والذي قرأ  تاريخ 23 يوليو في مصر قبل اعتقال "محمد نجيب" بأسبوع واحد يقرأ مادة مختلفة عن تلك التي يقرؤها بعد اعتقاله بأسبوع واحد أيضاً.. أمر طبيعي فإن ثمة اختلاف نوعي  بين المادتين، لكنما الذي ليس طبيعيا أن ثمة تناقضاً حاداً بين رؤيتين بينهما مسافة تاريخية لا تُذكر، ولعل مبعث التناقض الحاد ليس نابعا من رؤية حقيقية للتاريخ، أو استقراء مغاير لواقع جديد، بقدر ما أن مبعثه هو النفاق التأريخي الذي يتلون فوراً بلون السلطة الجديدة، والأمر قد يبدو محيراً لمن يعاين الرؤيتين: هل كان الملك فاروق صالحاً أم فاسداً؟، وهل كان محمد نجيب بطلاً أم مجرماً.. المحير أكثر أن تفسيرات المؤرخين غالبا ما تتلوَّن بلون التحليلات السياسية عندما لا تجد ما تقوله. وغالبا ما يصاب المؤرخون بالصمم عندما يتكلم الحاكم.. وإلا فما تفسيرات المؤرخين لاعتقال المشير " محمد نجيب".. ما جنايته التاريخية.. فيما أظن أن الإجابة تبدأ من صدر الزعيم جمال عبدالناصر الذي رحل عن الدنيا  ولم يدلي بالإجابة، وربما للسبب نفسه لن نجد عند مؤرخينا إجابة أيضاً.. تاريخ ما بعد القضاء على الملكية كله أضحى مثيراً للسخرية حتى لأن المؤرخين مختلفون حول المسمي هل هي ثورة أم انقلاب؟ وهل عبد الناصر زعيم وطني مخلِّص أم دكتاتور وصانع نكسات؟.. هل مهزلة تنحيه عن الحكم بعد النكسة حقيقية أم مسرحية سياسية؟ .. هل السادات بطل الحرب والسلام أم عميل غربي وخائن للعروبة؟.. أسئلة من هذه العينة الساذجة التي تدور في خلد الناس يمكن أن يجدوا لها تفسيرات متناقضة عند بعض المحللين السياسيين، وأحيانا في مذكرات السَّاسة الشائخين، وأحيانا في مذكرات الراقصات والمطربات اللائي كن على علاقة برجال الحكم، لكن لا يمكن أن يجدو لها إجابات عند المؤرخين العرب.
لا شك إن المؤرخ العربي الحقيقي وجه غائب، ومن ثم فدوره ـ رغم أهميته ـ غائب .. ثمة دور باهت إذن يمكن أن يمارس تواجدا شكليا تحت مظلة الحاكم، رافعا شعارات جوفاء ما تلبث أن تنمحي ليحل محلها شعار آخر .
ثمة دور أعرج يمكن أن يباهي به هؤلاء وهم يقومون بمهمة حفرية تتعلق بتحقيق المخطوطات والآثار التاريخية..  فيما أظن أن ما نحتاجه أكثر هو تطوير آليات فهمنا لما نحققه؛ فليست المسألة هي نفض الغبار عن التراث بقدر ما إنها الوعي الحقيقي بالمحتوى التراثي،  وتفسير مادته تفسيراً يهدف إلى استكشاف علاتنا الحقيقية التي تحول بيننا وبين تمثيل نفسنا في العصر، والإفادة من المادة التاريخية إفادة يمكننا معها مجابهة إشكاليات الحاضر، وبما يسهم أيضاً في تعزيز الهوية، والانتماء والوعي، والقيم الإنسانية.

تعليق عبر الفيس بوك