مواطنة الأفضلية وصناعة الطبقية الاجتماعية

د. سيف بن ناصر المعمري

كانت المواطنة - ولا تزال- الأداة التي وظفها المواطنون العاديون لانتزاع الحد الأدنى من مُتطلبات الحياة الإنسانية ممن يملكون التشريع والمال، كانوا لا يُريدون من المواطنة إلا الظفر بغنيمة الحياة الكريمة، لكن لم يتوقعوا أن ثمن تلك الحياة سيكون باهظًا جدًا، دفعوه أكثر من مرة، وبأكثر من شكل، وظلوا يحصلون على كلمات العدالة أكثر من حصولهم على العدالة نفسها..

وسمعوا عن المساواة لكنهم لم يدركوا إلا بداياتها، وعلموا عن الحرية لكنهم لم يتمكنوا من الحديث بها، متساوون في كل شيء إلا في المساواة نفسها، ومواطنون في كل شيء إلا في المواطنة نفسها، ولذا لم يُفلح السعي الإنساني نحو المواطنة في ردم الهوة بين الطبقات الاجتماعية، وظلت هذه الطبقات في كثير من المجتمعات هي التي تتحمل تبعات كل شيء من الحروب إلى الأزمات الاقتصادية، وظلت تخسر مكاسبها القليلة من المواطنة وهي الدخل والخدمات المجانية التي يحصلون عليها، مما قاد إلى إشكالية في العدالة الاجتماعية التي كانت في الأصل نسبية لم تُفلح في أن تحفظ للجميع قدرتهم على مُقاومة التداعيات الاقتصادية دون أن يفقدوا قدرتهم على الحياة المُمكنة.

إنَّ القرار الذي صدر حول أفضلية وأسبقية بعض الخدمات الحكومية لمن يقوم بالدفع- رغم أنَّ الكثيرين صفقوا له، وعدوه خطوة موفقة في طريق زيادة الإيرادات المالية- يعد مؤشرًا لمرحلة جديدة للمواطنة يمكن أن تقود إلى ما يسمى بـ"مواطنة الأفضلية" التي تمكن فئة مُعينة من المجتمع من الحصول عليها وتحرم فئات أخرى، أي أنَّها مواطنة القدرة لا مواطنة الاستحقاق، نعم مثل هذه المواطنة كانت موجودة من قبل حيث كان البعض ينجز كثير من معاملته نتيجة المركز الوظيفي أو المركز الاجتماعي، أو نتيجة تبادل المصالح، ولكن لم يشرع لها وتركت تمضي كما هي يعرفها الجميع ويمارسونها دون أن ينكرها أحد، حتى خرج علينا أحد المسؤولين الحكوميين في أحد اللقاءات التلفزيونية واعترف بوجود ذلك ولكن عزاه جملة وتفصيلاً إلى المواطن، لأنه هو الذي يسلك طرقاً فرعية لا مستقيمة في إنجاز معاملاته، ويطلب واسطة لا يقرها القانون، ولا أعرف كيف يمكن للمواطن العادي أن يتصرف في ظل مثل هذا القرار؟ إنه سيكون أحوج ما يكون اليوم إلى هذه الطرق الملتوية لكي ينجز مُعاملة لا يستطيع أن يدفع لها مثل الآخرين، أو أن المؤسسة التي وجدت من أجله لن تساوي بينه وبين مواطن آخر قادرا على أن يدفع، وسوف تنشأ طوابير حسب الفئات، أو ستخصص أبواب لا يُمكن لكل أحد الولوج فيها، وسيضطر المواطن في بعض الأحيان أن يدفع مثل الآخرين لتخليص معاملة مستعجلة لا يستطيع أن ينتظر حين يتاح الوقت للمؤسسة المعنية لإنجازها.

لقد حذر المنظر البريطاني تي مارشال من التفاوتات الاقتصادية بين المواطنين في محاضرة له منذ ما يقرب من تسعين عامًا، ورأى أن المواطنة المتساوية هي الأداة لتقليص تلك التفاوتات لخطورتها على التماسك الاجتماعي، والنتائج العميقة في تكوين طبقات اجتماعية بعضها ممكن أكثر من اللازم، وبعضها الآخر مهمش أكثر مما يتحمل، وفي ظل التفاوت تنشأ كثير من الظواهر الاجتماعية، ويتفق حراك السلم الاجتماعي، وتتمركز كل فئة في موضعها، ويسود الركود مختلف جوانب الحياة، أليس ما يجري اليوم من قرارات اقتصادية دون مراعاة للفئات الضعيفة هو إنتاج لكل المخاوف التي نبَّه إليها مارشال؟ قد يرى البعض أن الغاية تبرر الوسيلة في ظل هذه الظروف، والمهم هو الصمود الآمن للجميع، حتى وإن كان سيقود إلى ضغط كبير على قطاعات واسعة، لكن ألم تعتد هذه القطاعات على ذلك؟، إذن سوف يصمدون حتى لو تساقطت أحلامهم واحدًا تلو الآخر نتيجة مطالبتهم بدفع ثمن فوق طاقتهم لأزمة لا يُمكن أن تحل بالمال لأنَّ المال لم يكن يومًا سببًا لها حتى لو أتهم زورا وبهتانا بذلك.

إنَّ قرار أفضلية الخدمات تبعًا لأفضلية القدرة على الدفع، يُعد خطوة ضمن سلسلة خطوات تتخذ تدريجيا منذ ما يزيد على عامين من أجل تحميل المواطنين ثمن المواطنة وحقوقها، مما يعيد صياغة رابطة المواطنة ويجعلها أمام مسارات وتساؤلات عدة؛ أهمها على الإطلاق هو أن الشراكة كل لا يتجزأ، فشراكة المواطنين في دفع ثمن التنمية تتطلب مشاركتهم في تحديد أوجه الإنفاق والرقابة عليه، لأن إقصائهم من تلك المشاركة يعني ضعف علمية الحوكمة التي تضبط علمية الإنفاق ومتطلباته، كما أن الجودة والتحولات في بنية المؤسسات هي أيضاً كل لا يتجزأ، ينبغي أن يشمل كافة الخدمات والسياسات، ووفقا لذلك لا يمكن لأي مؤسسة كما يقول المثل الإسباني أن تعطيك قطاً على أنه أرنب، إنما يجب أن تعطيك الأرنب على أنه أرنب،  كذلك مسألة الأفضلية إن كانت بغرض التمكين لابد أن تعمل وفق أهداف أعمق مثل إعطاء أصحاب المؤسسات الصغيرة الأفضلية في كل شيء في هذه المرحلة بل وإعفائهم من كثير من الرسوم من أجل مساعدتهم على تثبيت أقدامهم في السوق، مما يعزز من مسار الاقتصاد وتنوعه، ويشجع آخرين من الشباب على السير في نفس الطريق.