وجها لوجه: د/غالية آل سعيد وعبد الرزاق الربيعي (1)

...
...
...



عبر خمس روايات، والعديد من القصص القصيرة، عالجت الكاتبة العمانيّة غالية بنت فهر آل سعيد الكثير من الإشكاليات التي يعاني منها الذين يعيشون على هامش المدن الكبرى، ويمضون أيّامهم في اجترار أوهامهم في مجتمعات هيمنت على أفرادها النزعة الماديّة، ولم يعد الإنسان فيها سوى رقم، ومن هنا تأتي محاولاتها للخلاص، ونيل العدالة، وصولا لبناء مستقبل أفضل، ويكون الحلم نافذة مضاءة مفتوحة على هذا المستقبل الذي يظلّ بعيد المنال، هذه الشخصيات الحالمة هي التي تشكّل عالم الكاتبة، التي تمثّل تجربتها علامة واضحة في الكتابة الروائيّة النسوية في عمان، مستعملة العديد من التقنيّات الفنية، كتوظيف الشعر، وأساليب السرد المختلفة، والفنون البصريّة، هذه التقنيّات صارت تمثّل قواسم مشتركة في أعمالها التي بدأتها برواية )أيّام في الجنة( 2005 م، وتناولت فيها حياة شاب عربي يعيش في لندن، التي بهرته الحياة فيها، فدخل في علاقات عديدة مع نساء  خدعن  بشخصيته، وتبعتها بـ(صابرة وأصيلة) 2007م، التي أعادت من خلالها قرّاءها إلى عمان الستينيات من خلال حكاية فتاة عانت طويلا من  الظلم، والقهر، في مجتمع محافظ، تحكمه تقاليد، وعادات متوارثة، وتوالت أعمالها :(سنين مبعثرة) 2008 م، و(جنون اليأس) 2011، و(سأم الانتظار) روايتها الأخيرة التي جاءت في جزأين ، صدرا عن (رياض الريس) للكتب والنشر البيروتيّة.. وعبر العديد من محطات الحوار بيننا سنكتشف المزيد من عالمها الرحب وتتكشف مع الأسئلة الكثير من جوانب شخصيتها الإبداعية... فإلى الحوار....

(؟؟) ترْكُ مرتع الطفولة، والشباب المبكر أمر صعب، كيف استطعت تجاوز تلك الصعوبات؟
** لك أن تتخيل ذلك، ولكن كان يجب الالتزام بقرار أبي، وتنفيذ أوامره. وصلت إلى المملكة المتحدة، مستصحبة عاداتي، وتقاليدي العمانية، وبداخلي شحنة قوية من الذكريات، وأمامي مخاوف من المستقبل؛ أكبر خوف يتعلق بالإخفاق في الدراسة، بسبب عدم اجادتي للغة الإنجليزية اجاده كافية تسهل سير الدراسة، وفهم تفاصيلها، وأهدافها.

(؟؟) التأقلم مع البيئة الجديدة أيضا صعب!!
** في بادئ الأمر، التأقلم في هذه البيئة الغريبة، كان صعبا بدرجة غير متصوّرة، فكل شيء غريب، ومختلف عن الذي ألفته في عمان، إضافة على هذا صعوبة اللغة. وقبل الانخراط في الدراسة التي أتيت من بلادي من أجلها، عشت مع عدد من الأسر الإنجليزية، كما كان يفعل الطلاب، والطالبات القادمون من مختلف بلدان العالم، لأتمرن على اللغة، وأمارسها. الأسرة الأولى كانت تدعى أسرة غامبولد، مكونة من أب، وأم، وثلاث بنات، وكلب كبير، ومعدات موسيقية للأب الذي كان يعمل في فرقة هيئة الإذاعة البريطانية لموسيقى الفلمهونك، أمَّا الأم، فقد كانت ربة بيت. الأسرة كانت تعيش حياة بسيطة للغاية، على الرغم من الدخل الشهري العالي الذي يتقاضاه الأب. كل شيء في البيت ملقى بإهمال، وبتلقائية، ومن دون تكلف. تجلس الأم بجانب الأب في صالة متواضعة الأثاث، والأب يتدرّب على آلة الناي.

(؟؟) جرى ذلك مطلع السبعينيّات، كيف كانت الحياة في بريطانيا؟
** كان أسلوب الحياة فيها ينشد المغامرة، والتغيير، لأنّها كانت تمرّ بمرحلة انتقالية تودّ التخلص من الماضي وويلاته. في بريطانيا، كما في سائر الدول الأوروبية، تم توديع صدمة الحرب العالمية الثانية، واستقبال عصر التغيير، سياسيا، واقتصاديا وعسكريا، واجتماعيا، وعلميا. ظهرت مفاهيم جديدة وترسخت في الوجدان، المناداة بالحرية، والعدالة، والمساواة، واحترام حقوق الفرد، والتخلّي عن القيود الاجبارية المفروضة على الفرد من دون إرادته.

(؟؟) ماذا تتذكّرين أيضا من التفاصيل اليوميّة في حياتك الجديدة؟
** مما بقي في ذاكرتي، كان لدى الأسرة كلب، وتواجده داخل البيت كان أمرا غريبا للغاية بالنسبة لي، منظرا لم أشهده من قبل. في بيئتي لا تدخل الكلاب إلى داخل البيوت كنا نراها من بعيد، وأحيانا نسمع نباحها. بنات الأسرة كن ما زلن في المدارس والأكبر سنّا كانت تستعدّ لدخول الجامعة، وكانت في عناد مستمر مع أبويها بسبب رغبتها الخروج، وحضور الحفلات المسائية، أما الطفلة الصغيرة، فتترك لساعات طويلة تلعب، وتلهو من دون الالتفات إليها، أو غسلها.
كانت ربة البيت لطيفة معي، تحدّثني عن أخبار الحارة، وعن جاراتها، ولكن للأسف لم يكن الأمر مثمرا، ومفيدا كما يجب. رغبتي عارمة في معرفة الذي تقوله وتحدثني عنه، وددت أن أكوِّن فكرة عن سير الحياة في الوسط الغريب، والمختلف الذي وجدت نفسي فيه، هنالك فروق واضحة عن الوسط الذي أتيت منه. كما تمنيت مقارنة الواقع المعاش بما سمعت، وقرأت، لكن يا للأسف كانت اللغة تخونني، وكنت أجد صعوبة في فهم الذي كانت تسرده ربة المنزل من أحاديث ذات أبعاد عامة، وأخرى في غاية الخصوصية.

(؟؟) ما هي المفارقة التي شكّلت بالنسبة لك صدمة في الحياة الجديدة ببريطانيا؟
** قبل وصولي الى بريطانيا كنت أتصور- بسبب تقدم هذا المجتمع علميا، وتكنولوجيا وصناعيا- إنني سأجد كل شيء يمشي بطرق الكترونية، وكهربائية، ويعمل بأزرار مبرمجة، وأتخيل أنهم يتناولون الطعام عن طريق الأقراص المغذية. هم من أطلق شرارة الثورة الصناعية، وكان للتكنلوجيا حضور بارز خصوصا في ذلك الوقت، فالاختراعات الصناعية، والتكنولوجية والنجاح العلمي على أوجها، فأنت تجدها في وسائل المواصلات، والعيادات، وفي البيوت، لكن تدريجيا تكشفت لي الجوانب الإنسانية، والثقافية في المعادلة، وعرفت التشابه بيننا، وبينهم. في حياتهم اليومية يكمن السر، هنا الأمور تمشي عادية، فهم يقرأون الكتب بذات الطريقة التي يقرأها الناس في المجتمعات الأخرى. بيوت العائلات التي عشت معها كانت ممتلئة بهذا، وذاك من الأدوات والآلات، لمساعدة ربة البيت في عملها، كالمكنسة الكهربائية، والغسالة الكهربائية، وغسالة الصحون التي لم اسمع عنها من قبل دعك عن أنى رايتها والسكين الكهربائية وماكينة عمل الشاي مبرمجة تعمل الشاي أوتوماتيكيا في ساعة معينه في الصباح، فلا داعي للذهاب الى المطبخ. وكانت الأسر تتباهى بما تملكه من هذه الادوات والآلات والمكائن، الاعلانات التلفزيونية تساعد على تسويقها، مبشرة بعهد جديد وامكانيات جديدة في عالم الاختراع والابتكار الميكانيكي والتكنولوجي. والدولة ذاتها تتباهى بهذه الاختراعات الجديدة، علماؤها نجحوا في وضعها بين ايدي الناس وربما من اهمها الاختراعات الطبية في مجال الصحة، والاختراعات الميكانيكية في عالم السيارات، ذاك وقت الاختراعات والصناعة وحرية الفكر والتفكير والرأي في المجتمع البريطاني. ولكن كما ذكرت قبل قليل، اتضح أنّه على الرغم من هذا التقدم العلمي، والتكنلوجي، حال البشر هنا كحال البشر في أي مجتمع من مجتمعات العالم، تجد فيه التنافس، والغيرة، والحسد، وربما الفساد. كبشر لا يختلفون في حياتهم اليومية عن غيرهم، لديهم ذات المخاوف من المستقبل، ومن فشل أبنائهم في نيل الدرجات العلمية، لعمري هي نفس المخاوف التي يعاني منها الناس في المجتمعات الأخرى؛ التقدم العلمي والتكنلوجي الهائل لم يحمهم من الخوف المتعلق بالوجود والغيب وما يخفيه المستقبل لبني الإنسان، كانت السيدة غامبولد، أو كوني كما ينادونها، تشكو لي من معاملة جاراتها، ومن بخل الجارة القريبة، وعدم تحليها بأطباع كأطباعها، وترى نفسها في وضع متفوق على جاراتها. وهنا بدت لي محدثتي البريطانية تشبه أي جارة من الجارات في مجتمعي الذي ولدت فيه، أو أي مجتمع من المجتمعات الأخرى في ذلك الكون الواسع المترامي الأطراف.

(؟؟) كيف سارت الأيّام الأولى لوصولك إلى بريطانيا؟
** في السنة الأولى من وصولي كانت دراستي خارج لندن، في مدينة تقع على حدود مقاطعة ويلز عرفت ببردها الشديد، ناسها لهم لغة خاصة بجانب اللغة الانجليزية. وكانت لدي رغبة ملحّة للالتحاق بالجامعة، مثل الزميلات من مدرسة الزهراء، الأغلبية نجحت في دخول جامعات في مصر، ولبنان، والاردن. وكنت أحسدهن على سهولة الانتقال من مرحلة لأخرى، ومن مجتمع لمجتمع؛ تحقيق طموحهن في الالتحاق بالجامعة من دون حاجة لدراسة لغة جديدة، وعذاب التأقلم مع مجتمع مختلف في جوانبه المادية والروحية. بقيت أتتبع أخبار زميلاتي، وأخبار نجاحهن في مجالات العلم المختلفة، الطب، والمحاماة، والصحافة، بينما بقيت أنا في صراع مرير للتغلب على صعوبة اجادة اللغة الإنجليزية، كما يجب، لكي أستطيع دخول الجامعة. تلك كانت فترة صعبة جدا في حياتي، ولكن أخيرا حقّقت هدفي، ومثل زميلاتي دخلت الجامعة لدراسة العلوم الاجتماعية وبعد ذلك درست السياسة والعلاقات الدولية.

(؟؟) حملت عمان معك، هل حاصرتك ذكرياتها؟
** بالطبع، فعلى الرغم من التنقلات التي قمت بها، وضغوط الدراسة، ظلت الذكريات، والأجواء التي عشتها في عمان معي، تمرّ كالشريط المصور في ذهني، ولكنها ثابتة، ولها قدرة على مقاومة موج النسيان، وأعاصيره. لا تنس إنني، من جيل أسميه جيل العهدين، أعني عهد السلطان سعيد بن تيمور الذي انتهى في العام 1970، وعهد صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد. ومن دون شك، كلّ من عاش حقبة ما قبل السبعين من القرن العشرين، سيتذكر عمان من دون كهرباء، طرق معبدة، أو مدارس ومستشفيات. مسقط التي عشت فيها منذ سن السابعة كانت تنهي ساعات الليل الأولى بطلق المدافع من أعلى القلعة (الميراني ) انذارا بحظر التجول الليلي من دون قناديل إضاءة، وبغلق بوّابة الباب الكبير، أي المدخل الرئيس الى داخل مسقط المحاطة بجدار عال يعزلها عن خارجها، وقد سمّيت (مسقط) من قبل بعض الباحثين " أصغر مدينة في العالم" بسبب الجدار الفاصل هذا، كانت (مسقط) عبارة عن رقعة تقع خلف الجدار. ويبقى الباب الكبير مغلقا حتى أول ساعات الصباح، فالذين تقع بيوتهم داخل مسقط لا يستطيعون الخروج بعد طلقة المدفع إلا بإذن مسبق من الشرطة، وكذلك من يريد الدخول اليها. هذا الجدار العازل موجود في مكانه حتى تاريخ هذه المقابلة رغم التغيرات الكثيرة التي طرأت في العاصمة مسقط.

تعليق عبر الفيس بوك