فُصُولُ مملكةِ الشَّر.. [أمل دنقل] (1)

وديع أزمانو – المغرب


هو "أمل"، هو الاسم إذ يؤنَّثُ فيعوَّلُ عليه
هكذا سمّاهُ أبوهُ، فجرى نيلٌ في الكفِّ، نهض الولدُ بقامتهِ الممشوقةِ من نخلِ الصَّعيدِ
من طينهِ الممزوج بنارٍ ترفضُ
وكان أملنا المصلوبَ في عمودِ الإنارة
.................
هو الأملُ، قتلناهُ مثل عادتنا في قتلِ الشعراءِ، ثمَّ رفعناهُ نبيّا، نكنسُ بصوتهِ غبارَ الهزائم والمقابرِ،
فمن عادتنا تقديسُ الأموات
من يسمعنا الآن؛ ونحنُ بلا حُنجرةٍ
من يرانا؛ ونحنُ أشباحٌ تتبادلُ أدوار القتل
من يشمُّ قميصنا، وحاضرنا كتاريخنا، نتنُ الرّائحة
قد جاءنا نبيٌّ من أقصى الوجعِ، وصرخَ فينا
فكمَّمنا أنفاسهُ، سملنا عينيهِ، وبعثنا بجسدهِ إلى ذئبِ البئر
قد قال ما رأى
فكذبناهُ يا زرقاءُ
سخرنا منهُ
وها هي الأشجارُ المستعارةُ، تطوينا في زحفِ الرَّملِ لأهدابنا
ها نحنُ، نرفلُ في ذاتِ الصَّليب
.....................
هل كان جديرا، بأن تتوحَّشَ نبوءتهُ وتغتربَ، كرسالةِ معصيةٍ في ساقِ العدم
هل كانَ لشمسهِ أن تتكئ على جدارٍ أسودَ من النفطِ
ليكتشف كافور خصيتهُ ويحكَّها ، فتستميتَ في الخصي
ها نحنُ عرفناهُ في الطير المأسورِ
في الصَّقرِ المجنَّحِ
في بلاغةِ الرؤيةِ
ودثَّرنا بموتهِ قداسةَ بلاهتنا
سمَّينا الوطن باسمهِ
وانسحبنا للعماء
........................
حاملا قلعتهُ، يكسرُ أسوارها، فنسمعَ طقطقةً في الضلوع
حاملا طينتهُ الصعيدية، تتقصَّفُ في المداراتِ
تشردُ عنّا، فنجوع
حاملا يتمهُ الأزلي، وغربتهُ المريرة
نتوضَّاُ بسيرتهِ
فتتقدُّ في دمعنا، الشموع
حاملا كسورهُ في صليبهِ، تحتفي بهِ النَّارُ
ويبكيهِ في المجرَّاتِ،
دمُ اليسوع
حاملا وطنا في الظهرِ، تزدهي بهِ الطعناتُ، ترمقهُ الفتياتُ بغمزةٍ
ويسيلُ عمرهُ شابا، في شيخوخةِ البيادرِ
تقبلُ في خصبهِ المُتأجِّجِ
عنوسةُ الرُّبوع
حاملا صخرتهُ دون سيرةٍ تتألَّهُ
يتدحرجُ في العمى
وكان لنا في موتهِ؛
أن نقرأ فاجعة الرجوع
......................
"ملكٌ أم كتابة"
قلتُ: الكتابة
سخر مني الملِكُ، وأرسل الجندَ
يطلبون الكلماتِ مسلولةً
يطلبون الرأس مذلولةً
يطلبون العدم الجليل
ها هي ملامحي مصلوبةً فوق السُّيوفِ
ها هي الرأسُ، تتدلى في جثَّةِ الحروفِ
ها أنذا؛ هامشٌ يزهو بهِ القتلُ
وتتركَّزُ خلاياهُ
في هباءِ المستحيل
.......................
قيل لي: اخرس
فالسكوت من ذهبٍ
فكيف يصمتُ من عضَّ على حديدٍ وما صدأ
كيف يسكتُ الذي أشعلَ في الأقاليمِ نارهُ، و ما انطفأ
أنا لم أجزّ الصوف يوما
لم أوردِ النُّوق
لم أذقِ الجوع
وما نمتُ في حظائر النسيان
أنا يا عائشةُ ابنكِ
الذي آويتِ رفاقهُ
أطعمتهم من جوعٍ
آمنتهم من خوفٍ
وخرجتِ معهُ في الرِّيحِ تذهبُ بالرُّكبِ
تبعتهِ بالتعبِ المقيمِ
وأقمتِ لبؤةً في الميدان
أنا يا عائشةُ،
ابنكِ دُعيتُ للمقصلة
ولم أدعَ للمجالسة !
.............................
هي "لا"
تنفتحُ كذراعي الحلاجِ فوق الصَّليب
تنطلقُ كالصَّقرِ المجنَّح
هي "لا"
زنجية وشيطانية
وحيُ الذين تركتهمُ السماءُ
يلعقون الجرحَ المُملَّح
هي "لا"
صفاءُ الصرخةِ، بهاءُ الموجةِ، نقاءُ الأبجديةِ، فضاءُ الأبديةِ، سماءُ الحُلْمِ، بقاءُ الاسمِ،
وانكسارُ الملامحِ في السيف
هي "لا"
مقدَّسةٌ و مدنَّسةٌ، مباركةٌ وملعونةٌ، مشتهاةٌ ومنبوذةٌ، رافضةٌ ومرفوضةٌ، قديسةٌ وبغي
هي "لا"
انبلاجُ صبحٍ، انفتاحُ جرحٍ، بيضاءُ وسوداءُ، لا يسارية ولا يمينية، وبلا لون ولا طعمٍ
كأنها الحياةُ والموتُ
كأنها الماءُ
كأنها النارُ
تفضحُ
هذا الزيف
هي "لا"
بدايةُ الخلقِ والخالقِ والخليقةِ ونَفَسُ المشئيةِ، صرختها الضائعةُ
وبكاءُ العدم
هي "لا"
تاجنا الحديدي في الأقدامِ والأيدي
وانفتاحُ نهرٍ
في وردةِ الفم!
....................
ها أنذا، أبكي مجددا بين يديكِ يا زرقاءُ
الخوفُ يبكي
الحرفُ يبكي
والبلادُ التي تزوجتِ الهزيمة
ها نحنُ نعودُ إليكِ
نبعثكِ في آلامنا، نسمِّي باسمكِ سماءنا اليتيمة
ها نحنُ، نلبسُ الصحراءَ
نقرأُ في عينيكِ الرملَ
ولا نرى أشجارا، تزحفُ
كصلباننا القديمة
.....................
لا تُصالح
هل صالحَ اللهُ الشيطان
هل صالحتْ سبأٌ
في غير الحكايةِ
جيشَ سُليمان
كنتُ هناكَ في اليمامةِ
حيثُ سُملت عيناي
و ارتفعتْ زرقاءُ
حيثُ قُتلَ مُسَيلَمَةُ
و سُرِقَ الرَّحمانُ
كنتُ هناكَ: أنسلخُ من ضلعِ الحكايةِ
أخرجُ طالبا قطرة ماء
كنتُ هناكَ، حيثُ السماءُ
دمعةٌ زرقاءُ
كنتُ هناكَ: أرى الرَّفضَ لسانَ الصحراء، أرى الأنفاس تصعدُ في الرئةِ كأنها الهواءُ
كأنها الدماءُ
لا تُصالح
هي صرخةُ الهباءِ في قميصِ العدم
هي انقطاعُ المسافةِ في وهمِ الطريق
هي انفصالُ الموجِ عن الذراعِ
ولهفةُ الغريق
هي النوافذُ تصطفقُ في ريحٍ، هي الوحيدُ يزرعُ في الحقلِ أوراق السَّفر، هي الغريبُ يسائلُ المحيطاتِ، هي المجهولُ يربطُ بالدَّم خيطهُ، هي الأشياءُ تجهلُ أسماءها، هي الأحلامُ تسترجعُ نسيانها، هي الناسُ تلمحُ أشكالها، هي الأوقاتُ تلتذُّ في ضيقها، هي الشجرةُ تبصرُ صُلبانها، هي العظيمُ يجهشُ، هي الطيرُ ينفشُ، هي الضاري يتمايلُ، هي الموجوعُ يتحايلُ، هي الترقُّبُ، هي التوجُّسُ، هي النُّعاسُ اللذيذُ وشفةٌ تنزعُ عن العطشِ آلاءهُ، هي الفمُ هي الدَّمُ، هي العَرقُ مبلَّلا في الإبطِ، هي الغرقُ مبلبلا في الحنجرة، هي الكأسُ هي اليأسُ، هي النَّشيدُ هي الصَّعيدُ يُنشدُ ويصعدُ ويتهاوى، هي الهاوية هي الغاوية، هي انحناءةٌ عاصفة، هي شفةٌ ناشفة، هي الهذيانُ يطفحُ، الجنونُ يجمحُ، هي الذُّهولُ هي الحلولُ، هي الدَّفنُ هي الوطنُ يدفنُ، هي التماسكُ هي التلاشي، هي التي ليسَ بعدها شيءُ...
لا تُصالح
حتى يرتدَّ الطَّرفُ
وتكونَ الدِّماءُ، ماءً
لا تُصالح
فليسَ بعد العماءِ، عماءُ

تعليق عبر الفيس بوك