التوجّهات الاستراتيجية لروسيا الاتحادية وبداية العصر البُوتيني

ماهر القصير – السعوديّة
باحث في السياسة الدوليّة


في سلسلة المقالات السابقة ألقينا الضوء على (الحلم الروسي) بالانبعاث من تحت الرماد كطائر الفينيق، وذكرنا عوامل النهوض، ومبررات الاستنهاض كقوة حضارية عظمى تعتمد على (الاقتصاد والصناعات العسكرية) المتطورة وتتخذ من التعاون مع محيطها الجغرافي وسيلة للانطلاق وفي هذه المقالة سنلقي الضوء على معالم "التوجّهات الاستراتيجية لروسيا الاتحادية" والتي من أهمها:
أولا - الواقعية: تتجسد هذه السمة في سعي القيادة السياسية الروسية إلى بناء سياسة براغماتية, عن طريق الابتعاد عن الحجج الأيديولوجية، التي كانت تميز التحرك الدبلوماسي والسياسي السوفيتي في الماضي القريب، وإحلال محلها مبررات سياسية واقتصادية أكثر وضوحا وتعبيرا عن تطلعات روسيا المستقبلية.
ثانيا - براغماتية القيادة: وتتمثل في لجوء القيادة الروسية إلى قيم جديدة بدأت تعمل بها, حيث عمد رؤساء روسيا إلى إظهار وتأكيد قطع علاقات بلادهم بالماضي الشيوعي, والتخلي عن كافة ركائز الحرب الباردة, بما فيها الأيديولوجيات الماركسية اللينينية.
ثالثا - الديناميكية: وتظهر ديناميكية أو فاعلية الاستراتيجية الروسية من خلال ما يضمن بصورة جدية عدم العودة إلى الوراء منذ تواري عصر الأيديولوجيات المتصارعة على الساحة الدولية أو غياب الأيديولوجيات الشيوعية، حيث ظهر فلاديمير بوتين في نظر الغرب كحام للخط الاستراتيجي الجديد الذي انتهجته روسيا في عصر العولمة وحرية الأسواق, مع الإصرار على وحدة تراب الاتحاد الروسي وعدم التفريط بها, واتباع مختلف الوسائل, بما فيها القوة العسكرية, لتأكيد هذه الوحدة, كما في الموقف من تمرد الشيشان. وإن أهم هدف تسعى إليه روسيا الاتحادية هو (إعادة هيبتها والحفاظ على أمنها وسيادتها من أي خطر يحيط بها), وهو أمر يدفعها إلى تعزيز وضعها العسكري في المناطق الحدودية
رابعا - المنافسة الحرة: وهي هدف جديد على السياسة الروسية, ولأجله أجاز الدستور الروسي الجديد هدف المنافسة على الأسواق العالمية محل المواجهة الأيديولوجية. لكن تحقيق هذا الهدف لا يخلو من الصعوبات, التي سرعان ما انعكست على الاستراتيجية الروسية, من خلال إعادة ترتيب الأولويات، الذي انعكس في خطط الإصلاحات البنيوية الجديدة, وحركة الانفتاح المالي والاقتصادي على الخارج.  وهذا يظهر الفارق بين الاستراتيجية الروسية الحالية وما كان متبعا في الحقبة السوفيتية، إذ خلافا للاتحاد السوفيتي, تفضل روسيا الاتحادية، ولأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، إرسال المزيد من الأسلحة إلى الدول التي تستطيع دفع ثمنها. بلوغ هذه الغاية يتطلب المزيد من الاستثمارات من جهة, والإصلاح البنيوي للقاعدة الصناعية الروسية لرفع مستواها التنافسي من جهة أخرى.
خامسًا - حرية الحركة: وتتجسد في أن تفكك الاتحاد السوفياتي وظهور نظام دولي جديد لم يصاحبهما فرض شروط على روسيا أو على مصالحها أو على حرية حركتها أو عناصر قوتها، فوضعها الجديد لم يجعلها، على الأقل، مجبرة على الانصياع لموقف الدول الكبرى, سواء داخل مجلس الأمن ضمن منظمة الأمم المتحدة, أو خارجه ضمن توجهات التطام الدولي الجديد، الأمر الذي مكنها من القدرة على التحرك والتحدي والمعارضة لأي نمط جديد في العلاقات الدولية, وبما يتفق مع مصالحها.
سادسًا - المرونة: وتظهر من ملاحظة الاختلاف في المفاهيم بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية بخصوص مسألة الأمن العالمي وموقع المصالح الروسية منها. ففي حين ترى الولايات المتحدة مناطق العالم الحساسة على أنها جزء من النفوذ الغربي, وعلى الغرب تأمين الحماية اللازمة للمحافظة على الوضع السياسي القائم فيها, تؤيد روسيا الجهود الجماعية, والاقتراح الداعي إلى إشراك جميع أعضاء مجلس الأمن والأطراف المعنية لحل أي أزمة تنشب في العالم.
وأهم هدف تسعى إليه روسيا الاتحادية هو إعادة هيبتها والحفاظ على أمنها وسيادتها من أي خطر يحيط بها, وهو أمر يدفعها إلى تعزيز وضعها العسكري في المناطق الحدودية. لذلك تعتبر روسيا أن قضية انضمام جورجيا وأوكرانيا, وحتى أذربيجان, إلى حلف شمال الأطلسي, تشكل خطرا كبيرا على أمنها القومي واستقرارها وإمكانية حركتها وتوجهاتها, سواء على المحيط القريب منها, دول الاتحاد السوفيتي السابق, أو على المحيط الأبعد, مثل الصين أو إيران أو غيرهما من الدول. ويضاف إليها مسألة نشر الدرع الصاروخية الأميركية في بعض دول الاتحاد السوفيتي (سابقا), وتجاهل كل الدعوات الروسية لحل هذه المسألة بطريقة تزيل الشكوك الروسية من أنها هي المستهدفة من هذا المشروع.   إن الدخول الروسي منطقة الشرق الأوسط، التي ما زال وجود الغرب فيها يتمتع بالتأثير الكبير، فضلاً عن ضرورة أن يكون التحرك الروسي والعلاقات القائمة مع دول هذه المنطقة مرسومين وفقاً للأهداف والمصالح الروسية، وانطلاقاً من المميزات التي تتمتع بها هذه الدول.
أهداف الاستراتيجية الروسية حيال المنطقة العربية:
1) السعي الروسي إلى تحقيق الأمن للحدود الجنوبية في وجه التهديدات التي تقع نتيجة فشل روسيا والدول المستقلة في إيجاد مؤسسات ذات كفاءة ورقابة على استخدام القوة, وذلك من خلال العمل على وضع حد للنزاعات والصراعات المنتشرة على مقربة من حدودها, ولا سيما النزاعات ذات المشاعر الإسلامية, حيث يشعر القادة الروس بأن جيرانهم المسلمين ما زالوا غير قادرين على خلق دولة قابلة للحياة, وأنه ينبغي لروسيا أن تأخذ الدور على عاتقها من أجل ترتيب الأوضاع السياسية في المناطق المحاذية لها بشكل لا يهدد أمنها.
2) إن دخول روسيا المنطقة من جديد هو سياسة وقائية لمنع الاندفاع الإسلامي, أو مواجهة ما يوصف بالتهديد الإسلامي الشامل الذي تتحدث بشأنه نظرية الدومينو, حيث تسعى إلى وجود نظام إقليمي مستقر قرب حدودها. وترى روسيا أن إعادة تأكيد مصلحتها الوطنية في إيجاد النظام المستقر أصبحت أكثر إلحاحا من أجل الوقوف في وجه التحديات الخارجية.
3) السعي الروسي إلى إيجاد حزام أو كتلة من الدول تقف في وجه القطبية الأحادية, وتساهم في ممارسة الضغط على الولايات المتحدة كي تتاح لروسيا فرصة الدخول في عملية السلام, وإثبات أن لديها قدرة ومكانة على الساحة الدولية, وهو ما يفسر السعي إلى إقامة العلاقات مع الدول المناهضة للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة, مثل إيران وسورية, وقبلهما العراق, من أجل الفوز بالتوازن الذي تستطيع من خلاله مواجهة الهيمنة الأميركية.
4) إعادة تأكيد الوجود النسبي الروسي في منطقة الشرق الأوسط, إذ ترى روسيا أنه إذا ما أرادت أن تحفظ هيمنتها على آسيا الوسطى, فيجب أن تعمل على تطوير العلاقات مع إيران. وعليه أضحت قضية نقل التكنولوجيا النووية وإمداد إيران بالسلاح مصلحة حيوية مزدوجة, فمن جهة تزيد من اعتماد إيران على روسيا, ولا سيما في هذا المجال, مما يحول دون قيام إيران بأي توجهات في المنطقة, وخصوصا في آسيا الوسطى, تضر بمصلحة روسيا, ومن جهة أخرى يفتح هذا التعاون الباب لتوظيف الأيدي العاملة الروسية, فضلا عن الحصول على العملات الصعبة.
5) حاجة روسيا إلى إيجاد شركاء اقتصاديين وأسواق تجارية وسوق للسلاح, إذ تسعى روسيا إلى الحصول على مكاسب اقتصادية, ولا سيما على فرص للاستثمار والحصول على العملات الصعبة جراء بيعها أسلحة.
وقد اتسمت هذه الاستراتيجية بالحيوية والمبادرات الإيجابية في الفترة التي تولي فيها فلاديمير بوتين الحكم، وذلك من خلال محاولات روسيا في عهده استمالة البلدان العربية في قضايا ذات اهتمام مشترك، وإبداء الرغبة في التوسط لحل الأزمات في المنطقة. حيث أصبحت موسكو عضواً مراقباً في منظمة المؤتمر الإسلامي، يوليه 2005، واستند طلبها إلى أن 15% من سكانها مسلمون، وكون ثماني جمهوريات من إجمالي 21 جمهورية متمتعة بالحكم الذاتي، منها جمهورية الشيشان، ذات الأغلبية المسلمة، وهم أساساً سكان أصليون وليسوا مهاجرين مثل أوروبا أو أمريكا، وأن حضور الإسلام في الأراضي الروسية قد سبق حضور المسيحية. وابتعد الإعلام في موسكو وجروزني عن ربط الإسلام بالإرهاب، وكان هذا مدخل التقارب مع الدول العربية أساساً والإسلامية عامة , وسعت موسكو خلال عام 2008/2009، إلى تحسين علاقاتها بالعالم العربي والإسلامي، وكانت إحدى الأوراق الروسية هي ورقة الشيشان الإسلامية السنية، واعتبارها جسراً لدعم العلاقات بالدول العربية والإسلامية، وتحركت جمهورية الشيشان من خلال رئيسها وممثليها مع العالم العربي والإسلامي لخلق مصالح مشتركة في مجال مكافحة الإرهاب. وهذا ما مهد لروسيا الدخول والقدرة على التدخل في أزمات الشرق الأوسط التي حدثت لاحقا بما يسمى (الربيع العربي) واستغلت معرفتها العميقة بهذه البلدان وسيكولوجية الحكم فيها وكيفية التسلل من هذه الأبواب لمد نفوذها للبحر المتوسط الحلم الاستراتيجي الروسي القديم والجديد.
يتبع.................. مشروع الحلم الامبراطوري الصيني (العظيم)

تعليق عبر الفيس بوك