حين يصبح "الدين" في قبضة السياسة!!

 

مسعود الحمداني

 

اتسعت الفتاوى حتى ضاق الدين بأهله، وشرّع الأرضيون ما لم يشرعه رب السماء، وخرجت من جعبة (الحواة) خزائن الحلال والحرام، ورأى علماء السلاطين ما لم يره غيرهم، وزرعوا بذور الشقاق والفراق بين الناس، ووزعوا صكوك الغفران على تابعيهم، وتابعي تابعيهم، وأدخلوا مخالفيهم ومخالفي حكامهم وأحكامهم نار جهنم، التي لا يملك مفاتحها غير الله.

واحتكر الدين فئة من العلماء الذين لا يرون إلا رأيهم، ولا يعتقدون إلا بما أنزله مشايخهم، ولم يلتفتوا إلى غيرهم إلا كمخالفين للإسلام ولجماعة السنة (وكل مذهب يدّعي أنه الأقرب لها والحفيظ عليها)، فأنتجت فتاواهم جماعات الإرهاب والتكفير ومصاصي الدماء، ومحللي قتل النفس التي حرم الله، وسبي النساء، واستعباد الأطفال، كل ذلك باسم الدين الذي هو منهم بريء، فوصلت حال المسلمين إلى القاع السحيق الذي باتوا فيه أذلّة في أرضهم وأرض غيرهم، فسحقاً لهكذا أفكار، ومعتقدات.

فحين لا يجيز دكتورٌ درس الفقه والشريعة الترحم على مؤمن موحّد لأنه (رافضي) ويربط فتواه بتبعية الميت لدولة له، فإن خللا عظيما يكتنف هذا الفكر على مستوياته الفكرية والعقدية، وحين ينتقم أبناء مذهبٍ من أتباع مذهب مخالف لأنهم (نواصب) ومشتركين في جريمة قتل تاريخية فإن فكرا عقيما لا يمكن أن يتطور يعشعش في عقول هذه الفئات، وحين يقوم مراهق بقتل والديه بحجة أنهما (كفار) فنحن أمام أبشع أنواع الخرافات الدينية، وحين يقتل المسلمون غيرهم بحجة الردة أو بحجة النفاق فذلك معناه أننا نقف في مواجهة (محاكم تفتيش) جديدة، وحين يكون المسلمون في كثير من أوطان الأرض هم المشكلة بدلاً من أن يكونوا جزءا من الحل ويساهموا في عمران الأرض فمعنى ذلك أن هناك انحرافا عن المسار الذي حدده الله لنا، وحين يقتل المسلم مسلماً آخر موقنا بأنه كافر لأنه من أتباع مذهب آخر فنحن نقف أمام أديان متعددة يجمعها التوحيد وتفرقها الآراء.

لقد انكشفت عورة أولئك العلماء والمحدّثين الذين ملأوا الفضائيات ضجيجا، وتكفيرا ولم يعد للكثير منهم مصداقية، أو رأي يُعتدّ به، رغم أن بعضهم يملك من الألاعيب اللفظية ما يجعله أضحوكة في فم متابعيه، فحين سُئل أحد هؤلاء (المحدّثين) عن (عدم إعلان الحرب على إسرائيل، وتوجيه كل القوة العسكرية لإيران..)، أجاب بكل استخفاف بعقل السائل (أنه متى ما تم الانتهاء من حرب إيران سيتفرغ ولاة الأمر لقتال إسرائيل..!!)..بهذه الصيغة العوجاء يحدّث مهرجو الفضائيات الذين أعطاهم أصحاب القرار مساحات واسعة لتضليل المشاهد من خلال المنابر التي تدّعي زورا وبهتانا أنها قنوات أو برامج دينية، في حين أنها تلعب دورا مزدوجا مشبوها كذراع لتوجهات السلطة السياسية ضمن إطار ديني متلوّن حسب الرأي السياسي، والدليل على ذلك أن تلك الأصوات تلاشت حين أعلنت الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس عاصمة لها، ولم تسمع لهم همسًا، ولهذه الأصوات وأشباهها سجل طويل وحافل في تحليل المُحرّم، وتحريم المحلل منذ زمن بعيد حسب الأهواء السياسية التي تمليها الظروف. لقد أضعف مثل هؤلاء المحدّثين هيبة العلماء، وهزوا صورهم في أذهان الناس، ولم يبق من تلك الصور العظيمة التي نقرأ عنها في الكتب سوى أطلال من الماضي البعيد، الذي كان العالِم فيه يقف أمام الحاكم مرفوع الرأس مجاهرا برأيه، حتى ولو كان على حساب رقبته، لذلك احترمتهم السلطة، وهابتهم، أما حين تحول علماء الدين إلى أتباع للسلطة فإن الآراء قد فسدت، وتحوّل الدين إلى تجارة مزجاة لمن يدفع أكثر، وضاعت هيبة الفتوى والعلم.

العالم الإسلامي أجمع بحاجة إلى فصل (السلطة الدينية) عن السلطة السياسية، وإعطاء علماء الدين (الثقاة) استقلالية تامة ليقولوا آراءهم دون خوف أو رقابة أمنية، فبذلك يمكن أن يستعيد الناس ثقتهم في علمائهم، بدلا من أن يتحوّل هؤلاء العلماء إلى أدوات تحركها يد السياسة، وتلعب بها كيفما تشاء..ورغم أن ذلك أمر بعيد المنال، ومثاليّ جدا، وقد يكون له أثر عكسي أحيانًا، إلا أنه الطريق الوحيد للخلاص من (بطش) بعض العلماء بعقول البسطاء، واستئثارهم بالدين.

Samawat2004@live.com