الزهد والإسراف المعماري بين التراث والحداثة

 

أ.د/ علي ثويني – خبير معماري باليونسكو - السويد

تداخل مبدأ الزهد بالتواضع و الوسطية  والابتعاد عن الغلو و الإسراف.والزهد (Ascetisme) في اللغة هو (الإعراض عن الشيء لإستقلاله واحتقاره وارتفاع الهمة عنه) بحسب ابن رجب ،أو يرد ضد الرغبة وليس عدمها باطلاق، ومنه قولهم زهيد للقليل دون المعدوم..ويقال "خذ زهد ما يكفيك أي قدر ما يكفيك" وبذلك فالزهد هو القليل ،ورجل زهيد الآكل قليله.

 

وجسدسيدنا علي بن أبي طالب(كرم الله وجهه) خطابا زاهدا بحالتين : (الاعتدال في العيش دون الحرمان من الطيبات وهذه لعامة الناس، وإختيار الفقر والحرمان للأئمة). وذلك في خطابه إلى محمد بن أبي بكر والي مصر الوارد في نهج البلاغة: (أن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله،وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم،ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم..سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت،وأكلوها بأفضل ما أكلت،أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غدا جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون،لا ترد لهم دعوة،ولا ينقص لهم نصيب من اللذة،فإلى هذا يا عباد الله ليشتاق من كان له عقل، ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله).

 

 وأورد الطبري عن الخليفة عمر بن الخطاب (رض)قوله عن الحاكم:(أن لايركب الوالي برذونا ولايأكل نقيا ولايلبس رقيقا ولايتخذ بابا دون حاجات الناس.) والبرذون هو من وسائل النقل المقتناة من خاصة الناس وعليائهم. وورد عن سيدنا عمر بما يخص أمور تفصيلية في البناء في قوله لسعد بن ابي وقاص عند توليه على الكوفة: (إياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس).

 

وقالالفقيه المغربي الفضيل بن عياض (الزهد هو الرضا عن الله) و قال سفيان الثوري (161هـ-777م) (الزهد في الدنيا قصر الأمل ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء). وقال الحسن البصري (ت.110هـ-728م):  (الزاهد الذي رأى أحد قال هو أفضل مني).و سال الحسن البصري عن سر زهده فأجاب: (إنها أربعة أشياء علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فأطمئن قلبي وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به وحدي وعلمت أن الله مطلع علي فأستحييت أن يراني على معصية وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي) . وفي الصوفية قال الجنيد البغدادي عن الزهد: خلو اليد من الملك، والقلب من التتبع.وقال بشر الحافي : الزهد ملك لا يسكن إلا في قلب خال، وقال السري السقطي: مارست كل شيء من أمر الزهد ، فنلت منه ما أريد إلا الزهد في الناس ، فإني لم أبلغه و لم أطقه .و قال يحيى بن معاذ: لايبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال : عمل بلا علاقة ، وقول بلا طمع ، و عز بلا رياسة.  وقال السلفيإبن تيمية ( لايحصل الأخلاق إلا الزهد ،ولا زهد إلا بتقوى، والتقوى متابعة الأمر والنهي). وأصل الفهوم جاء في قوله تعالى في سورة الفرقان (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).

 

والنصوص الداعية للزهد نابعة من شعور المؤمن بالهوة السحيقة بين سمو الآخرة وحقارة الدنيا.وكان ذلك  سببا كافيا لأن تعلن جل الأديان كفاحها ضد الجميل لحدسها بأنه يقيد الناس بالدنيا ويطمعهم بمتعتها الموجودة في الملبس والمأكل والأهم في العمارة التي هي خير محل لتفريغ حالة العافية للإنسان.وهكذا جاء الدين والفن والعمارة الدينية موجبا على الناس خشية الخالق الضابط لتلك الجدلية.وبموجب ذلك أعلنت الديانات عدائها ضمنا للجميل لكنها لم تعلن عدائها "للسامي" الذي يعاضد الممارسة الأخلاقية ،لما لها من تداخل مع الغيبيات التي تثنينا عن الإتيان بالقبائح.

 

وقد وردت الدعوة للزهد في الأديان البوذية والمسيحية والمانوية قبل الإسلام ،على خلاف  اليهودية فقد بنيت على مبادئ تجارية غير داعية للزهد. وقد أقتنع بعض النصارى في ممارسة الرهبنة والتبتل والإعراض عن ملذات الدنيا،ولم يقر الإسلام ذلك. ونقرأ وصف العمائر الإسلامية الزاهدة الأولى ابتداء من مسجد المدينة ،مع حجراته الجانبية الذي أشادها الرسول الكريم من مادة الطين وسقفة بجذوع وجريد النخيل مثل أي دار للعامة.ونقل أبن السائب عن الإمام الحسن: (كنت أدخل بيوت أزواج النبي(ص) في خلافة عثمان (رض) فأتناول سقفها بيدي).

 

ويعزي البعض أن هذا الزهد المعماري متأت من  بيئة الصحراء الفقيرة التي ورد منها الإسلام ، أو ربما عقلية أهلها المؤثرين البساطة في العيش. وقد ظن إبن خلدون أن نزعة الإسراف والترف في البنيان وردت الى العرب من الفرس والقبط والنبط والروم ،ونسى بأنه حالة متجذرة في الطبيعة البشرية.ويعد(ابن قتيبة) من أوائل من دعى الى (النورم) أو المعيارية في العمارة، حيث وصف الدار بالقميص، فحيث يخاط القميص حسب مقاس صاحبه، كذلك يبنى البيت حسب مقياس ساكنه، وهي ريادة عن المقياس الإنساني Human Scale ،الذي أصلة في تراثنا وتواجد بقوة في الحداثة، في توق للنقاء والبساطة والإختزال ودحض البهرج و مؤآثرة  التقشف والأعراض عن التمظهر والخيلاء. و صفة البساطة والتبسيط تتمثل في المباشرة نحو الهدف الوظيفي في تشكيل الفضاء المعماري كما في المسجد ليحقق  وظيفة روحية وثقافية واجتماعية البسها المسلمون  برداء معماري يفي بالحاجة دون الإهتمام إلى كيفية ما  ستؤول إليه أشكالها. 

أما (الإختزال) فلم يكن يعني إختزال الفضاء في جوانبه الكمية المجردة ،بل تشتمل مجمل الأحاسيس والانطباعات التي تتولد عن حالة التكامل المتزن بين عناصر البنية الكلية لذلك الفضاء ،الذي يخدم الحياة الاجتماعية. و الميزان بين التبذير والتقتير مبدأ معماري نافذ،من خلالالوصول إلى نقطة التوازن الحسي والمادي والتوقف عندها ،و هي من سمات البراعة والإبداع والتحكم الرفيع في الإيقاع والتأثير على أحاسيس المتلقي للفعل الإبداعي وان تحقيقه  بين طرفي المعادلة (الأكثر أو الأقل) من اعقد التحديات التي تجابه المعماري والفنان وحتى الأديب.والتبسيط هنا لا يعني السذاجة في العملية التصميمية .والمبنى البسيط في شكله ينتجعن دراسة متفحصة  وليست اعتباطية متسرعة. وتتأتى البساطة من تأثيره على استعمال وتنظيم حياة مستعمليه،وتأثيره على تسهيل فهمه وإدراكه، فالعمارة الزاهدة تنعكس على توجهات الناس كذلك ، سيرا على هدى مبدأ (العمارة نصنعها ثم تصنعنا) والتي قالها (راسكن) الإنكليزي الفكتوري قبل قرن ونيف ، لكننا وجدناها في شعر أندلسي قبل عشرة قرونلأبي الفضل الوليد بن طُعمة  يوصف البذخفي بناء مدينة الزهراءالواقعة على بعد 8كلم من قرطبة.

 

تلك القصور من الزهراء طامسةٌ *** وبالتذكر نبنيها وتبنينا

على الممالك منها أشرفت شُرَفٌ *** والمُلك يعشق تشييدًا وتزينًا

وعبد رحمانها يلهو بزُخرُفِها *** والفن يجمع فيها الهند والصينا

كانت حقيقة سلطان ومقدرةٌ *** فأصبحت في البِلى وهمًا وتخمينًا

والتبسيط عملية فحص وتجريد و اختزال لكل ما هو زائد وكل مال ليس له ضرورة وأساس من التواجد،وما يعد عبئا على كفاءة المبنى. وهذه العملية لا تظهر للرائي العادي و يدركها الخبير ،المدرك لمكامن الجمال من "النوع الفكري" المحسوس،وليس الملموس. أما صيغة التبسيط الواردة في تيار "العمارة العالمية" المعاصر فهو ليس إلا إتباع لقواعد واستخدام لأشكال تم تبسيطها لتصبح ممكنة التداولبثلاثة أبعاد كأنها تماثيل أو ثنائية كأنها لوحات فنية. 

 

و للجمال الذي تبحث عنه العمارة في بساطتها ثلاث صيغ إحداها حسي و عاطفي يتعلق بالذكريات و فكري يتكرس بعد مراحل من الرقي العقلي والوعي الثقافي.ويدعى كذلك (الجمال التجريدي) وهو أقرب أنواع الجمال إلى النوع "الوظيفي". ويتداخل ذلك مع مفهوم (المتقشفون) في العمارة، وهم المتمسكون بوجهة النظر الفكرية وحدها ويسقطونها عادة على الممارسات الأخرى غير الفكرية.وهذا الجنوح إلى الجمال لا يتواجد في ذهن المتفرج السلبي (passive)، ولا يتكشف لذوي العقل العلمي المحض،وبذلك يكون الإعجاب بالشيء وحده ولذاته وكنهاية في حد ذاته إعجابا تجريديا منزها من الغرض والفائدة ،أي مبرر أخر،وبذلك يتضمن الشكل لدى عشاق هذا الجمال درجة من السمو النوعي ويترادف الشكل مع الجمال نفسه.

 

وقد أدى التعلق بهذا النوع من الجمال (الزاهد) إلى مشاكل فلسفية في الحضارات المادية ،ومنها الحضارة المعاصرة ،حينما وضعت مبادئ جامدة في النسب والتناظر والانسجام الشكلي وغيرها من المبادئ التصميمية في العمارة، رامتفرضها على أذواق الناس . ثم تصاعد إلى حالة من الإبتآس من الموضوع بمجمله ،الذي عد الجمال مسألة فردية محضة. وبذلك وجد حلا وسطا للأكاديميين الساعين  لمقاييس ثابتة وشاملة والفلاسفة اللذين يبحثون عن الحق المطلق والعلميين الذين يريدون ترتيب الأشياء عقليا حتى يتم استيعابها والإلمام بكلها  في الذهن والذاكرة. 

 

وللبساطة صدى في نفوس جل التيارات الفنية والمعمارية الحديثة بحسب تعريف عرفان سامي بأنها : (الفن العلمي لاقامة أبنية تتوفر فيها عناصر المتانة والمنفعة والاقتصاد وتفي حاجات الناس المادية والنفسية والروحية في حدود أوسع الإمكانيات وبأحسن الوسائل المتوفرة في العصر التي تكون فيه).

 

وأنبرى بهاجس الزهد ضمن تيارات عمارة القرن العشرين (النقائيين Purists ) ومنهم (أدولف لوس) ،  ناقدا عام 1908الزخرف في العمائر وورد في كتابه (الزخرف والجريمة)، وتطرف وعد الزخرف من علامات الهمجية أو التردي الآثم، أو متنفسا للكبت. و بعد أن هذبت تلك الفكرة و ظهرت في مدرستين التي تخص المعماريي (ليكوربوزييه)(1887-1965) و (ميس فان دروه) (1886-1969حينما كرسا الاختزال والتقشف في المفردات المعمارية وعدوا الزيادة في البهرج مثل النقضان به (Less is more) رغم من أن البعض كما المابعدحداثي روبرت فنتوري عده مدعاة للسؤم (Less is bore ) . ويصف ليكوربوزييه ذلك :(تتولد العاطفة من النظام التشكيلي الذي ينشر تأثيره على كل جزء من أجزاء التكوين ..من الوحدة في الفكرة تمتد من وحدة المواد المستعملة إلى وحدة خطوط التسوية العامة ..من الوحدة في الهدف ..من ذلك العزم الذي لا يتزعزع للوصول إلى غاية النقاء وغاية الوضوح وغاية الاقتصاد ). وثمة مدرسة للمعماريين الفنلنديين والمدرسة الاسكندنافية مثل (الفار آلتو )(1898- 1976)ورسموا خطهم البسيط المتناغم مع الخطاب الأخلاقي العمومي والعقلية الشعبية دون الإفراط في العاطفة إليها، ومازالت رافضة لعمارة البذخ.

 

ويمكن رصد البون بين الزهد المعماري الإسلامي وبين رواد عمارة القرن العشرين بأن الثاني جاء مقتصرا على الزخرف والدعوة الى (الاختزالية)، دون المساس بالجانب الصرحي والمبالغات في الفضاءات والبذخ في مواد المواد و البهرج والإثارة والفنطازيا،مما يجعلهيهتم بالأشكال على حساب المحتوى الذي أنفلت من عقاله وأصبح أداة إبهارية لاعقل يحتويه و تداعى إلى بذج في التكاليف لصالح الشكل على حساب المحتوى، وعلى خلاف الزهد الإسلامي الذي دعى إلى"كلانية زاهدة"، في تجانس مرهف بين الحياة والعمارة، بما لايكبح الجموح الشكلي لكن على مبادئ متعقلة. وإذا رأينا مركز حيدر علييف الثقافي للمرحومة زها حديد في باكو، لايمكننا أن نصدق أنه مسترسل من العقلية الأذرية المسلمة المحلية أو خلفية عربية مسلمة لمصممة المعلم ، والتي أنزاحت نحو التشويه الحداثي الباذح واللاعقلاني، من جراء القدوة المادية المكتسبة.

 

إن إدراك المفهومين-الاقتصاد والتبذير - المتناقضين يلتقيان في نقطة ذروة يتحقق عندها الكمال والتجاوب بين المكونات وعند هذه النقطة يجب أن تتوقف الإضافة إذ عندها تتحقق أسمى درجات الغنى والثراء علي صعيد الوظيفة أو الشكل . وهذا ما يتجلى في كثير من الأعمال العمرانية والمعمارية العربية. ولدينا في عمارة الصحراء والواحات المنعزلة التي استطاعت أن تحافظ على بساطتها من التأثيرات الخارجية و أحدثت اكبر الأثر في نفوس معماريي "البساطة" الذين أستلهموا من منبعها .أما معماريينا فقد طرقوا الجانب الصرحي منبهرين بعماديات الغرب، رغم وجود بعض المدارس العالمية الداعية إلى تطوير نوعية وكفاءة مواد البناء وتكنولوجيا البناء الذي يوفر السرعة والسهولة والاقتصاد في التنفيذ. وقد وجهت انتقادات شعبية حادة لمركز التجارة العالمي في مركز مدينة ستوكهولم عاصمة السويد وكان مما رددوه العامة في ذلك بأنها " هنا السويد وليس الخليج العربي!.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك