رسالة السلطان.. وأمانة الشعب

 

د. عبدالله باحجاج

انشغلت الكثير من وسائل الأعلام التقليدية والإلكترونية خلال اليومين الماضيين بملاحم الحب التي أبداها العمانيون تجاه سلطانهم في يوم 18 نوفمبر، وهو يوم العيد الوطني الـ47 المجيد، فقد حاولت البحث عن السر في المنجز المادي الملموس الذي تحقق طوال تلك العقود، فلم تكتشف السر الحقيقي الذي يقف وراء ديمومة تلك الملاحم رغم أهمية استدلالاتها، لأنّها ركزت على ما يظهر فوق السطح من نتائج دون التعمق في ماهية الفكر السياسي المنتج لها.

وكل ما اكتشفته، وكشفته، لن تصنع هذا الحب الدائم بين السلطان وشعبه، فلا يمكن أن تؤمنه السياسة المتقلبة، ولا التنمية المتغيرة، ولا المال ونسبيته المطلقة، بدليل الظرفية المالية الراهنة، وسياسة التقشف التي تتبعها الحكومة لمواجهة تداعيات انخفاض أسعار النفط منذ عام 2014، فهذه كلها ظرفيات، لم تنفذ لجوهر العلاقة المتجذرة بين السلطان وشعبه، فعلينا البحث عن الأسباب والروابط الفعلية التي تجعل هذا الحب ثابتا، ودائما، لا تؤثر فيه الأنواء السياسية ولا المالية.

فهل نزعم بأننا قد وضعنا أيدينا عليه- أي السر؟ تساؤل طرحناه على فضاءاتنا الذهنية بينما كنا نحضر لكتابة مقال عن هذه المناسبة، تفاعلا مع هذا المرور السنوي لهذا الحدث الوطني الغالي، كحتمية على كاتب مثلي عاش وتعايش مع ما يجرى في بلادنا منذ انطلاقة النهضة العمانية من بقعة جغرافية يشكل واقعها الآن، نموذجا لإرادة الانتصار الوطني، وانعكاساتها الإيجابية على عموم البلاد، بل وعلى الإنسانية جمعاء. من هنا يمكن القول إن أساس هذا الحب يكمن في شخصية السلطان نفسه، من حيث مقوّماتها الذاتية والموضوعية، وماهيّة الرسالة التي جاء بها عام 1970، ومن ثمّ نظرة العمانيين إليه من خلال كل ما ذكرناه. وهي نظرة تترسخ الآن في الأذهان العمانية قاطبة، كمؤسس لدولة عمانية معاصرة، ما كان لها أن تكون ما لم يكن وراءها رجل دولة، مهيئ قدريا لقيادة هذا البلد، وُضع فيه القبول، ومُكِّن بمقومات ذاتية ممنوحة بالفطرة منذ الولادة، وموضوعية عالية التأسيس والتكوين والتأطير في مختلف المدارس والكليات العسكرية والإدارية والعلوم الشرعية، وعرف بالتالي: كيف يجمع داخل الدولة التعدد الاجتماعي والتنوع الفكري، ويوحد ترابها أي الدولة، وولاءاتها وانتماءاتها، بعد ما كانت متفرقة ومتشتتة بين أفكار أيديولوجية متصارعة، وبين عواطف إقليمية غير ثابتة.

والمتأمل في حديث جلالة السلطان- حفظه الله- لصحيفة السياسة الكويتية عام 2006، وبالذات الفقرة التالية: "إنني أشعر بأنّي صاحب رسالة ولست صاحب سلطة"، سيلحظ أنّ بلادنا كانت على موعد مع مؤسس دولة حديثة وليس مع سلطة جديدة، انبثقت من ظروف تاريخية خاصة ببلادنا، وحملت مشروع تأسيس دولة عصرية قائمة على المؤسسات والقانون ومأسسة المجتمع وتوزيع الصلاحيات والسلط، وضمانة الحقوق والحريات، وهو مشروع طويل، وآفاقه لا تزال عالقة بمراحل زمنية مقبلة، وربما تكون معلقة. الأهم هنا، أنّ هذا الفكر الدستوري لدى المؤسس، وقد وجدناه منذ عام 1971 عندما عين رئيسا للوزراء، قبل أن يعدل عنه لعدم توفر ظروفه الموضوعية، غير أنّ المسار الدستوري قد تجسّد في وثيقة مكتوبة طموحة، بعد ربع قرن من انطلاقة النهضة العمانية، وتحديدا عام 1996، عبر إصدار النظام الأساسي للدولة. وتصاعدت وتيرة المسار الدستوري بنمو الوعي للمجتمع السياسي، فهناك علاقة ترابطية بين التطورات السياسية والوعي السياسي للمجتمع، وقد كان تحقيق الأمن يشكل الأرضية التي يمكن على أساسها إقامة هذه الدولة الحديثة. وقد شكل تحقيقه المعادلة الصعبة والمكلفة ماليا في عملية تأسيس هذه الدولة بسب حجم التحديات السياسية- آنذاك- والفاتورة الاجتماعية التي كان يدفعها الفرد والجماعة، نتيجة انعدام الأمن. وبعد خمس سنوات فقط من انطلاقة النهضة العمانية، تمّ تحقيق الأمن الشامل في كل ربوع الوطن، لذلك نرى أننا كعمانيين لدينا تقدير عال بنعمة الأمن والاستقرار والتعايش المجتمعي بعد أن اختبرناه في أتون صراعات عنيفة، فقد فيه الشقيق شقيقه وبسلاح أحدهما أو بسلاح ابن عمه أو... لذلك يعد جلالته- أبقاه الله- هنا بمثابة المنقذ الذي أوقف إراقة الدماء بين الأخوّة، وحفظ الأنفس من استباحتها بأقل المبررات، وفي حالات كثيرة بعدم وجود أيّة مشروعيّة، بحيث أصبح لبلادنا منظومة أمن قوية الأركان، وعميقة التأسيس، يستريح في ظلها اليوم المواطن والمقيم، ويستجير بها كل من فقدها من الأشقاء والأصدقاء.. فهل انكشف لنا رابط من أهم روابط المحبة المقدسة بين السلطان وشعبه؟!

ومن هذا الرابط المعزز بقوة الدولة الشرعية، توالت الروابط المتتالية والتالية، بحيث أصبحت البلاد متهيئة لقوافل التنمية وأحداثها التي انطلقت من معادلة صفرية، وحققت تنمية شاملة وملموسة في كل محافظات البلاد. وقد نجد الروابط التالية كذلك في قوة بلادنا الناعمة التي تمّ تحقيقها من خلال تصفير المشاكل مع الخارج عبر تطبيق مبادئ سلميّة، أصبحت تشكل شخصية بلادنا في محيط متغيّر، يجير المبادئ التي يفترض فيها الثبات، وفق المصالح السياسية المتحركة على الدوام، فأعداؤه أصبحوا من خلالها أكثر من أصدقائه، وأصبح شأنه الداخلي عرضة لتقلبات سياسته الخارجيّة؛ بينما نلاحظ مدى التناغم والانسجام والتواصل التلقائي بين السياسة العمانية في الداخل ونظيرتها الخارجية.

وكل من تابع الاحتفالية الوطنية أمس الأول، سيلحظ حجم الرهان على الأمن خلال المسيرة الوطنية المقبلة، فالعرض العسكري قد تشرّفت بتنظيمه واستضافته شرطة عمان السلطانية، بل واصطبغ الاحتفال بداية ونهاية باللمسات الأمنية الدالة على الرهان الأمني الجديد في التفاتة مختارة للظرفية الزمنية الراهنة، ظرفية تعلي من شأن مفهوم الأمن، لبلد كسلطنة عمان، وذلك حتى تظل بلادنا في سربها آمنة ومطمئنة، وفي تنميتها مستقرة، ومتواصلة، بعيدة كل البعد عن التأثيرات الإقليمية، وعبورها حدودنا السياسية. بل إنّ حاجة مستقبل اقتصادنا، يتوقف على ديمومة هذا الأمن في إطار موقعنا الجيواستراتيجي الذي أصبح يغري الاستثمارات العالمية، وما منطقة الدقم إلا نموذج لهذا الاستثمار متعدد الجنسيات، ففيها نجد استثمارات تنتمي إلى 16 جنسية؛ من الأمريكان والهنود والصينيين والخليجيين، وغيرهم، وقد أصبح يغريها جيوبولتيكية بلادنا التي تقع فيها بعض موانينا مثل صلالة والدقم، مطلة على البحار المفتوحة، البعيدة عن مناطق الصراع في الخليج. فمنطقة الدقم تتحكم في حركة التبادلات العالمية بين الشرق والغرب، وقريبة من المسار البحري للتجارة العالمية في بحر العرب والمحيط الهندي. لذلك.. فالنهضة الاقتصادية العمانية المقبلة تحتاج لديمومة الأمن والاستقرار، كحاجة التنمية له إبّان انطلاقتها عام 1970، كما أنّها في المقابل بحاجة ماسة لانعكاسات التنمية الاقتصادية الجديدة على المجتمع، وهذه التلازمية شرط أساسي لضمانة الديمومة بين الأمن والتنمية.

وتظل قضيّة استكمال مقومات هذه الدولة- كما في فكر مؤسسها- من الأولويات الوطنية للمرحلة المقبلة، لأنّ دولة المؤسسات والقانون، هي الضمانة المقبولة للفرد والجماعة، وأهم معايير الانتماء للعصر الحديث، وكانت في صلب أول خطاب للمؤسس عام 1970. وذلك عندما وعد شعبه بدولة عصرية تحقق لهم العيش الكريم، فإنّ تحقيقها والدفاع عنها أمانة ملقاة على الشعب بأكمله، وهي الآن خيارهم الاستراتيجي وفيه ضمانة استقرارهم وأمنهم. وربما تكون بلادنا الوحيدة خليجيا التي قطعت أشواطا كبيرة في تأسيس مثل هذا النوع من الدول. فهل سيحمل المجتمع أمانة استكمال دولة القانون والانعتاق نهائيا مما تبقى من الدولة الفردانية؟ وهذه رسالة سلطاننا، وهي أمانة ملقاة على عاتق الشعب العماني كله.