صور الأزمات واستراتيجية الاحتواء وأساليب المواجهة

د. عيسى الصوافي
دكتوراه في إدارة الأزمات

 

في الحقيقة، عندما تقوم الأزمات لا يمكن اتخاذ أي موقف سوى التعبئة من أجل التصدي لها ومواجهتها، وبالنظر لتنوع الأزمات ومواجهة اندلاعها بأشكال مختلفة، فإن التعامل معها يكون بدوره له صور وطرق مختلفة كذلك. وبالتالي يمكن القول بأنه لا وجود لنموذج موحَّد يتم به التصدي لأنواع الأزمات وتعددها. لكن، إذا ما قمنا بتمحيص النظر في القواسم المشتركة بين الأزمات، نستطيع أن نرسم أسساً علمية للوقاية منها ومواجهتها عبر ترتيب عدد من التصورات لأنواعها واحتمالاتها وما يمكن أن يحدث معها وكيف يمكن التحكم في العوامل التي قد تحرض على اندلاعها، ثم منها ننطلق إلى ترصيف جملة من الطرق والإجراءات تشكل أساليب التعامل مع الأزمات وطرق متابعتها والسيطرة عليها بهدف احتواءها وضبط مضاعفاتها.

    تصنيفات الأزمات
من الواضح أن الأزمات عندما تندلع تظهر في أشكال وصور متباينة حاولت النصوص التي رسمت حدودها وعددت حالاتها، أن تقدم صلاحيات مواجهتها بطرح تصورات مدققة وشروط محددة. فأضحت أصناف الأزمات تتعدد قواعد احتوائها (..) تتضح وتتدقق بهدف تمكين صانع القرار، خلال المواجهة، من حرية التحرك ونجاعة التدبير.

(1) الشكل الأول: التَّظاهرات الاحتجاجية: وهي عمل جماعي يتجلى في قيام جمهور (ما) بالتجمع في مكان معين عام، فيه يتم الإلتقاء قصد الإعلان عن احتجاج ما. وقد شكّل مكان الانطلاق نحو وجهة معلومة أو غير معلومة، بقصد الاحتجاج ضد موقف اتخذته هيئة عامة أو خاصة أو بسحب قرار أو التنديد بموقف، إحدى الشروط الأساسية للترخيص بالتظاهر. ويشترط في قيام عملية التظاهر أن تتسم بالتحرك وإخبار السلطة العمومية بمكان الالتقاء وخط التحرك والانتهاء والتفرق. فإذا حصل منظموها على ترخيص السلطات العمومية بالتظاهر تكتسيالتظاهرة طابع الشرعية. أما إذا قام هذا التظاهر دون إذن من السلطات العامة، فإنه يصبح عملية فوضوية تهدف إلى التأثير في الرأي العام بشكل غير شرعي، قد يتلقى رد فعل المسؤولين عن الحفاظ على النظام العام.

(2) الشكل الثاني: مظاهر الشغب: ويقوم الشغب عندما يحصل تغير في مسار احتجاجي للتظاهر المشروع إلى مسار يبتعد عن السلمية في التعبير عن آرائه ومواقفه والاتجاه نحو استخدام الوسائل العنيفة التي تسفر عن إلحاق الخسائر والأذى بالأشخاص والممتلكات العامة أو الخاصة سواء حصل هذا في الأماكن العمومية أو الخاصة.

(3) الشكل الثالث: الاعتصام: ويتمثل في قيام مجموعة أفراد لهم قواسم مشتركة بالتجمع والبقاء في مكان عام له أهميته كمرفق عمومي بالشكل الذي يعطل اشتغاله ويحول دون أداءه لوظيفته، وكل هذا قصد الضغط على الجهة المسؤولة عن المرفق للاستجابة لمطالبهم.

(4) الشكل الرابع: الإضراب: ويتجسد في امتناع العاملين في هيئة عامة أو خاصة عن القيام بعملهم المنوط بهم تعبيراً عن احتجاجاتهم ومطالبتهم بتحقيق مطالب تخصهم مرتبطة بالشروط المادية أو المعنوية لوضعيتهم في العمل. ومن شروط الإضراب أن على القائمين به ينبغي عدم المسّ بحرية العمل لمن لا يرغب أن يقوم به من العاملين، وأن يتواجد المضروبون في مكان العمل وقت الإضراب دون القيام بالعمل، لا أن يستريحوا في بيوتهم أو يرتادوا أماكن الترفيه بالمدينة أو يسافروا وكأن الأمر يتعلق بإجازة. كذلك، ينبغي أن تحدد مدة الإضراب بداية ونهاية، وأن يسبقه إخبار للمسؤولين أرباب العمل أو الإدارة المسؤولة عن المرفق وكذا إخبار السلطات العمومية، وأن تبدأ عملية الإضراب أولاً بإضراب إنذاري يلفت النظر إلى مطالب المضربين حتى إذا لم يتلقوا أية استجابة أو إذا لم تسفر المفاوضات عن أية نتائج مرضية يتم اللجوء إلى الإضراب المفتوح.

(5) الشكل الخامس: المسيرات السلمية: وهي تكون دائماً عندما تتحصل هيئة أو تنظيم معين على رخصة السير بشكل جماعي سلمي منظم لفئة المواطنين التي تنخرط فيها عن طواعية بهدف إما دعم أو التنديد بموقف أو قرار معين. وتكون المسالك التي ستقوم بها هذا النوع من المسيرات واضحة ومعلنة، معروفة بدءاً من الانطلاق وانتهاء بالوصول. كما تكون العبارات التي يتم طرحها في الهتافات والشعارات المكتوبة المكتوبة على اللافتات التي سترفع مودعة ومعروفة لدى الجهة التي تمنح الترخيص بها.

(6) الشكل السادس: احتجاز الرهائن: ويتجلى في تقييد الحرية الجسدية لشخص أو مجموعة أشخاص لهم أهميتهم الخاصة، وذلك من طرف فرد أو جماعة تهدد بالتصفية الجسدية للمحتجزين أو إلحاق الضرر بهم، إذا لم يتم تحقيق مطالبهم التي قد تكون سياسية أو مادية. وفي هذه الحالة تكون السلطة العمومية على علم بمكان بالاحتجاز وتتخذ التدابير التي من شأنها إنهاء الأزمة عن طريق السلم والتفاوض أو عن طريق العنف.

(7) الشكل السابع: اختطاف الأشخاص: وهو عمل إجرامي يقوم به فرد أو عصابة تنقل الشخص المختطف أو المختطفين إلى أماكن مجهولة غير معلومة لدى أجهزة الأمن بغرض الضغط لتحقيق مطالب مادية أو غيرها. هذا العمل من شأنه أن يخلق أزمة وضيق لدى المسؤول نظر لموقع القوة الذي يتخاطب منه الخاطفون، بالنظر لانعدام القدرة لدى السلطات التي تكون أمنية في غالب الأحيان، على القيام بأي عمل لتحرير المختطفين. هذا العجز يضع الأجهزة الأمنية في موقف حرج أمام الرأي العام، كما أن الخاطفين في هذه الحالة هم الذين يتحكمون في خيوط الأزمة، يسيرونها وفق أغراضهم كما أنهم يكونون متماسكين بحيث نادراً ما يحصل انشقاق بينهم لصالح السلطات الأمنية(..).

(8) الشكل الثامن: اختطاف وسائل النقل: هو عمل إرهابي يصنف ضمن مسببات الأزمات، إذ يصدر عن الأشخاص أو المجموعات الإرهابية يسعون عبره إلى فرض تحقيق مطالب، غالباً ما تكون سياسية مقابل الإفراج عن الركاب وآلية النقل، ويتميز هذا النوع من الأزمات مقارنة مع أزمات اختطاف الرهائن، بأن هامش التحرك هنا يكون مفتوحاً للإرهابيين من خلال قدرتهم بكل حرية على التنقل بالطائرات المختطفة بين المطارات أو البواخر بين الموانئ إذا كان الأمر يتعلق بسفن بحرية. كما أن الدول التي تحاول تخليص الركاب ووسائل النقل تغدو متعددة بتغير المواقع التي ينزل بها الإرهابيون من تراب الدولة الذي تعود إليها ملكية السفن أو الطائرات أو تراب الدول التي تقبل مضطرة إلى استقبال الإرهابيين في رحلتهم. وعادة ما ينتهي هذا النوع من الأزمات بتدخل عنيف للدولة.

(9) الشكل التاسع: الكوارث: وهي حالة مفاجئة غير منتظرة تسفر تماماً عن خسائر مادية وبشرية، بحيث يسجل عجز السلطات عن مواجهتها دون التوصل بمساعدات ودعم خارجيين من الدول الأخرى، وكذا المنظمات والهيئات الدولية والوطنية، وغالباً ما تعلن المنطقة التي تعرضت للكوارث مناطق منكوبة. ومن بين الكوارث التي تصيب العديد من البلدان حول العالم هناك:
    الكارثة الطبيعية: وتأتي نتيجة فعل الطبيعة، لا دخل للإنسان فيها، كالزلازل والفيضانات أو المد البحري المعروف بـ«تسونامي» أو الصواعق والبراكين. وينتظم دور السلطات العامة في وصول الأمن العام من أجل إجلاء الساكنة، ثم بعدها يكون دور الوقاية المدنية من أجل تنظيف المواقع المتضررة وإنقاذ المواطنين الضحايا وضبط الخسائر.

    الكارثة البشرية: وتقوم عقب الإهمال البشري وسوء تقدير وقلة احتراس الإنسان، إما باندلاع حرائق للغابات نتيجة الإهمال وسوء التقدير أو الكوارث الكيماوية في الأنهار عبر تسرب النفايات من المصانع وغيرها كانفجار مخازن المتفجرات أو التسريبات الإشعاعية كما حصل في مركب تشرنوبل بالاتحاد السوفييتي سابقاً.


والسؤال الآن كيف نتصدي للأزمات؟
إن التصدي للأزمات يبقى الرد الوحيد الذي يفرضه حصول الأزمات، فلا خيار آخر بديل عنه. لكن، كيفما كانت الحال، التصدي يأتي في أشكال مختلفة تتنوع باختلاف الأزمات. ولكن تجمع بينها قواسم مشتركة نستطيع تلمسها في حَلَقَتين كلتاها تسعى إلى تحقيق نتائج موحدة.

أساليب مواجهة الأزمات:
أولا- مواجهة الفاعل البشريّ:
رغم اختلاف أساليب مواجهة الأزمات فإنها تتكامل فيما بينها باعتبار أنها تصب في اتجاه واحد. ويمكن أن نميز فيها بين ما هو موجّه تجاه الفاعل البشري وبين ما هو تجاه الطبيعة:
(أ) أساليب مواجهة الفعل البشري، ونختصر هذه الأساليب في ثلاث صور كل لها خصوصيتها:
(1) المواجهة الصدامية: والمقصود بها استخدام القوة العنيفة واللجوء إلى العنف لدفع الخصم الإرهابي وإجباره على التراجع من موقفه. ويُعلِن هذا الأسلوب منذ البداية رفضه الرضوخ لمطالب الخصم كيفما كان التهديد، وفي هذا المنحى لابد أن تكون قدرة الأجهزة على تحمل الخسائر ومعاقبة الخصم مضمونة ومؤكدة، وهو ما تعمل على تبليغه إلى الخصم بشكل واضح حتى لا تشجعه على التهديد هو باستخدام القوة، كل هذا مع التلويح بتخفيف العقاب في حالة التسليم وإنهاءه حالة الأزمة.

(2) المواجهة التفاوضية: وهذه الطريقة تُقدَّم بقصد إنهاء الأزمة والتوصل إلى تنازل من مرتكبي الأزمة في بعض مطالبهم مقابل تنازل الأجهزة عن بعض مواقفها، وعادة ما يتم اللجوء إلى هذا الأسلوب عندما تشعر الدولة أن تكاليف الأزمة ستأتي فادحة فوق طاقة تحملها، وإذا ما تبين أن استمرار الأزمة غير مرغوب فيه إزاء متغيرات المحيط سواء الداخلي والخارجي، وإذا ما تبين كذلك أن الحسم العنيف غير مُجْدٍ وأنه من الأفضل الركون إلى المساومة، إما لإيجاد حل غير مكلف أو لتهيئة الظروف لحسم الموقف لصالح الدولة.

(3) أسلوب التسليم: ويعني ببساطة الرضوخ لمطالب مرتكبي الأزمة الذين يفرضون شروطهم، إما لإطلاق الرهائن أو إرجاع وسائل النقل المختطفة من قبلهم. وهذا الأسلوب غير محبط لأنه يشجع عناصر أخرى إرهابية على القيام بأعمال مماثلة من شأنها خلق أزمات بالبلاد، ويجعل المسّ بالأمن القومي أمراً غير مستعصٍ ووسيلة في متناول أي إرهابي لتحقيق أغراضه، كما أنه يحطُّ من هيبة الدولة ويضعف وزن أجهزتها الأمنية.

ثانيا - مواجهة فعل المحيط غير البشري:
بالنسبة للأزمات التي تندلع جراء حوادث لا دخل للإنسان بها فإن التعامل معها يكون، إما عبر اتخاذ تدابير احترازية من شأنها تخفيف الأضرار إذا ما وقعت، كتبني ضوابط البناء المضاد للزلازل عندما تكون احتمالات وقوع الهزات الأرضية ذات وتيرة متداولة بالبلاد التي لها أنشطة بركانية مثلاً أو ضوابط المساكن المضادة للحرائق إذا وجدت مدن محاطة بالغابات، إضافة إلى قوانين تضبط التداول للمواد الحارقة أو سلوك غير مسؤول مع كل المواد الملتهبة، إضافة إلى القدرات على التحرك وتغيير المواقع بالنسبة للمنطق التي تعرف فيضانات دورية... مقابل الترتيبات التنظيمية القانونية، هناك جانب الأهبة والإستعداد اللوجستيكي، حيث يلزم تأهيل الموارد البشرية المختصة في أعمال الوقاية المدنية ثم تهيئة التجهيزات الفردية لمواجهة الحرائق أو تنظيف المواقع من بقايا المباني المنهارة أو الطرق والقناطر المنشقة وغيرها من وسائل ضخ المياه ونقل المواطنين... الخ.

تعليق عبر الفيس بوك