دولةُ الشُّعراء

عبد الله زيادة – فلسطين

 

محطات من كواليس الذاكرة، تستلقي في مخيلتي بهدوء، تحتسي قهوة الفكرة، تعود للقيم الثابتة العفوية؛ لا غموض في مضمونها..لا شك في بساطتها، عفوية القلم الذي يخط واقعها بحرفية لا يختزله في زجاجة الحداثة المستوردة، ولا يتبع سيّل التعصب.. ربما وحي الذكريات لم يمت بعد؛ بل يكبر داخلنا بكل جماله.. لحظاته ..عاداته وكل نمط عيشه.. فالأمة التي لا تفخر بماضيها لا حاضر ولا مستقبل لها، والعناوين المزخرفة ليست أجمل من تعبيرات عجوز  كان أوضح من الواقع ذاته، والمظاهر المزيفة مرآة مهشمة على جدار  متصدع..
فالسفر للماضي هو البحث عن الحقيقة، والمتعة الشيقة لفيض  الإرث الشامخ هو الحياة في كنف الأرض الخالدة في زوايا الروح.. المشقة الجميلة في رغد القناعة الباقية، السفر للماضي أعظم من البحث عن محطة الحاضر المبعثرة في رداء  دخيل، أبهى من النظر للمستقبل من نافذة يحرسها الذئب الغادر.
الماضي نقاء السريرة في دفن كل الشكليّات المؤقتة، فما أعظم أن تسافر للماضي وأنت ترسم حاضرك ومستقبلك من الريشة نفسها وعلى سطح اللوحة ذاتها ليكوِّنا أزمنة متعددة نزرعها في أعماقنا دون ضجيج...
نحن الشعراء..نتنفس حب أوطاننا، ونعشق أن نسير في حقول قوميتنا دون أنين..آهات الثكالى تأسر سعادتنا في كل مكان.. نمضي بمشاعرنا لنصنع دولة من الحب.. نسكب القمر في مرآة الذكريات..لا نبحث سوى عن غيرنا.. يقتلنا داء حب الذات المتفشي في عقول الحمقى.. بابتسامة قد تتولد لدينا معنويات من التسامح والوئام.. فأين البحر في كل رحلتنا هذه.. هل وصولنا له بات مستحيلا.. هل ينتقم الليل منا حينما نفقد مسارنا تائهين.. كم نحن عظماء حينما نحزن ليسعد المكلوم.. ننام ليصحو الفجر بكل أحلام منتظريه.. نصبر على لوعة النقد الذي يتسلل في أعماقنا خجلا..
نحن الشعراء لم نعد نملك أحلاما  في أوطان  من الموت.. بل لم نعد نملك أوطانا في قصائدنا الباكية .. أين الحروف التي توارت خلف ثقافتنا ألمّا .. هل باتت أحبالنا الصوتية مقصلة لها ..أم إنها تتحدث بصمت..
نحن الشعراء مباح  لنا أن نسرق الحزن من مآقي شاخصة على قيد الحياة.. مباح  لنا أن نكذب على طفل  مشرّد بأنه في نزهة  عابرة.. مباح  لنا كل ما يسكِّن ضمائرنا من شذرات  مسكنّة، أو ربما تمنح الأمل لميت  ما زال يتنفس.. تمنح القلب لجسد  مات كل ما فيه.. تمنح الورد لبائع الكفن.. الوحيد الذي تبقى ليخفي عورّات ما زالت تنزف..
نحن الشعراء نكتب التاريخ ونرسم الجغرافيا ونلقي الأدب.. لنا حرية عميقة في فكرنا الناضج ولسنا كطير ينظر للسماء بحسرة بالغة بعدما كُسّر جناحه.. لذا وجب على هذا العالم المكتظ بالبلاد والشعوب أن يتنازل كثيرا.. ليحقق دولة الشعراء.. التي مساحتها كل قلوب الأحرار.. وشعارها قصيدة واحدة لا تكفي لكل مواطن عربيّ يحيا في معاجم الفخر بكل شموخ.

تعليق عبر الفيس بوك