بإبداع هندسي فريد في تنسيق الأسطر ونقش الحروف

مصحف "القراءات السبع" العماني.. مخطوطة نادرة تبرهن براعة علماء عمان

الرؤية - نصر البوسعيدي

يحق لنا دوما أن نفتخر بالإرث الحضاري الفكري الذي تركه لنا الأجداد، الذين أبدعوا في اجتهادهم وجابوا مختلف الأمصار الإسلامية لطلب العلم والتأليف والتميز حتى في طريقة كتابة المخطوط؛ لما يملكونه من براعة وشغف في مختلف العلوم.

ولذلك لا غرابة أن نجد أن أهل عمان كانوا من السباقين في مجالات عدة وخاصة في علوم اللغة العربية والطب والفلك والفقه وإلخ، فمن ينسى جهود العمانيين في حماية اللغة العربية مثلا، حيث تعد مؤلفات الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي العماني من أوائل المؤلفات التي حفظت رصانة اللغة العربية وعلومها في النحو والعروض والتشكيل ليسهل قراءة القرآن الكريم، كما يعد كتاب الماء لمؤلفه العماني أبو محمد عبدالله بن محمد الأزدي (ابن الذهبي) أول معجم لغوي طبي في التاريخ البشري ولذا صُنف ابن الذهبي من الشخصيات المؤثرة في تاريخ العالم حسب تصنيف اليونيسكو للشخصيات المؤثرة برفقة العالم الجليل نور الدين السالمي والطبيب العماني راشد بن عميرة.

وهنا سنتحدث عن مصحف كريم بغاية الأهمية واسمه مصحف (القراءات السبع) وهو مخطوط ثمين جدا ويعد من نوادر المخطوطات على مستوى العالم أجمع لما يتميز به من إبداع هندسي عماني خالص بيد الشيخ عبدالله بن بشير بن مسعود الحضرمي الصحاري، فلم نجد له مثيلا سابقا في طريقة كتابته للمصحف الذي أهداه لابنته بعد أن أنهى كتابته في عام 1148هـ، ويحفظ حاليا في دار المخطوطات بوزارة التراث والثقافة بمسقط، وكتب مصحفا آخر بالنسق نفسه في مسجد مود بنزوى في عام 1744م، وأهداه لأحد علماء نزوى، ويوجد في مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي بالسيب، وقد أمر حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم-حفظه الله ورعاه- بالعمل على إعادة طباعة ونشر هذا المصحف على نفقته الخاصة، ولا يزال العمل جاريا في هذا الشأن وقريبا سيرى النور، ليحفظ للأجيال جميعها ما تركه الأجداد من تراث فكري وحضاري يدفعنا دوما لإكمال المسيرة نحو غد أفضل.

ويعد الشيخ الفقيه عبدالله بن بشير الصحاري من علماء عمان الذين عاشوا في القرن الثاني عشر الهجري، ويتميز بخطه البديع وطريقة كتابته الرائعة للمخطوط، وله العديد من المؤلفات ككتاب الكوكب الدري والجوهر البري، ولقط الآثار، والنور المستبين في إيضاح الحجج والبراهين وبعض القصائد منها:

سمحت بطيف خيالها أسماء

لمحبها فتجلت الظلماء

زارت خيالا في الدجى من بعد ما

غفل الوشاة ونامت الرقباء

غراء يمنعها الكلام دلالها

 تيها ويمنع الدلال حياء

بيضاء بهكنة شموع كاعب

لقد اعترى عشاقها السوداء

وعطفا على هذا المصحف الفريد فقد كتبه الشيخ كاملا مع القراءات السبع المركونة في حواشيه، وجعل كل جزء من أجزاء القرآن في الصفحة اليسرى من المصحف موزعا على ثماني ورقات أي 16 صفحة، ليصل عدد أوراق المصحف كاملا 240 ورقة تحمل كل صفحة فيه 15 سطرا، مع استخدامه للون الأسود والأحمر في الكتابة.

إبداع هندسي

كتب مصحف القراءات السبع بإبداع هندسي فريد جعله من الأهمية بمكان؛ حيث تبدأ كل صفحة من المصحف بأول آية وتختم بنهاية آية، والحرف الأول الذي يبدأ في السطر الأول هو الحرف نفسه بتنسيق عجيب يبدأ به السطر الأخير في ذات الصفحة، والعملية نفسها في الصفحة المقابلة حيث تتماثل الحروف في بداية الصفحة ونهايتها، كما أن أول حرف في السطر الثامن من الصفحة اليمنى يقابلها الحرف نفسه في السطر الثامن في الصفحة اليسرى، وهكذا يستمر في نسقه المميز وإبداعه الكتابي حتى نهاية المصحف، فاستطاع الشيخ عبدالله بن بشير الصحاري أن يفعل ذلك في كل صفحات المصحف رغم قلة الإمكانات وقتها، لكن ارتباطه العميق بالقرآن الكريم ومحاولته التميز لنقل كلام الله المقدس لكل المسلمين كان الدافع الحقيقي لاجتهاده.

كما لم يغفل شيخنا عبدالله بن بشير في كتابة القراءات السبع على هامش المصحف والتي أخذها من أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني من خلال كتابه التيسير في القراءات السبع، مع الحرص على وضع علامات التجويد في مواضعها.

ولذا فقد استطاع عبدالله بن بشير الصحاري أن يبتكر -منفردا- طريقته الفنية في كتابة المصحف الشريف متميزا بذلك عن من سبقه لينقل ويتعلم من أسلوب كتابته العديد من أهل عمان من كتبوا بعده على نفس منهجه ولو أنها محاولات قليلة ليصبح أسلوبه مدرسة لمن بعده يسيرون على خطاه.

رحم الله الأجداد وما تركوه لنا من أمهات المصادر في التراث الفكري المحفوظ في تلك المخطوطات العمانية العتيقة والتي يوجد منها الآلاف رغم تلف الكثير منها على مر التاريخ للكثير من الظروف، ولله الحمد ما تبقى لدينا من خلال آلاف المخطوطات لخير شاهد على اجتهاد أجدادنا في طلب العلم رغم كل الصعوبات حينها، وها نحن اليوم نتبع آثارهم محاولين قدر الإمكان أن نترك لأجيال عمان المستقبل ما ينفع حاضرهم وما هذه الأمثلة التي نفتخر بها إلا شيء يسير نحاول تسليط الضوء عليها، لنجد اليوم شباب عمان خير الخلف لخير السلف متفوقين بشتى العلوم ومن أميز شباب الخليج العربي في ذلك، وخير شاهد على ذلك تفوق طلابنا المبتعثين بالجامعات الأوروبية وكأنني أراهم امتدادا للأجداد من رحلوا عبر التاريخ للبصرة وبلاد فارس والشام والأندلس لتلقي العلوم فأصبحوا الرائدين في شتى المجالات، ومؤلفاتهم وإرثهم الحضاري اليوم باقية خير شاهد.

تعليق عبر الفيس بوك