سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (11)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ – جامعة نزوى


انتهينا في الحلقة العاشرة في ذكر ما ورد من أسرار تكرار كلمة (الناس) خمس مرات في سورة (الناس) واختتمناها بقول الكرماني (ت505 هـ): "كرَّر الناس خمس مرات، قيل: كرّر تبجيلا لهم على ما سبق، وقيل: كرّر لانفصال كل آية عن الأخرى لعدم حرف العطف، وقيل المراد بالأول: (الأطفال) ومعنى الربوبية يدل عليه، وبالثاني: (الشُّبَّان) ولفظ الملك المنبئ عن السياسة يدل عليه، وبالثالث: (الشُّيوخ)، ولفظ إله منبئ عن العبادة يدل عليه، وبالرابع: (الصالحون والأبرار) والشيطان يولع بإغوائهم، وبالخامس: (المفسدون والأشرار) وعطفه على المتعوّذ منهم يدل على ذلك"(1).
في توجيه معاني (الناس) هنا طرافة للاعتذار عن ظاهرة ما يكون تكرارا ويحمل وجاهة . وقد رد محمد محمد أبو موسى على ما ذكره الكرماني من أن في السورة انفصالا فقال :"إن هذا الفصل وصل خفي أي أنه وصل بغير أداة الوصل التي هي الواو فالوصل يعتمد اتصال المعنى كأنَّ الأولى مهاد للثانية وهكذا "(2). ولا أرى أن الكرماني بلغ الدقة في معاني (الناس) مثلما فصلها الدامغاني - السابق ذكره - وأتفق مع محمد محمد أبو موسى في توجيهه ما ظاهره الانفصال وهو ملحظ دلالي جميل.
وقال الزمخشري (ت538):"فإن قلت: لم قيل (برب الناس) مضافا إليهم خاصة؟ قلت: لأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس، فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي تملَّكَ عليهم أمورههم وهو إلههم ومعبودهم...فإن قلت (ملك الناس إله الناس) ما هما من رب الناس؟ قلت: هما عطف بيان... بُيِّنَ بملك الناس، ثم زيد بيانا بإله الناس لأنه قد يقال لغيره: رب الناس... وقد يقال ملك الناس. وأما (إله الناس) فخاص لا شركة فيه" (3). ومن قولة الزمخشري "قد يُقال..." هذه ننطلق وعليها نعتمد فيما سنذهب إليه.
وقال الطبرسي (ت 548 هـ): "قل يا محمد (أعوذ برب الناس) أي خالقهم ومدبرهم ومنشئهم، (ملك الناس) أي سيدهم والقادر عليهم، ولم يجز هنا إلا ملك...لأن صفة ملك تدل على تدبير من يشعر بالتدبير...(إله الناس) معناه الذي يجب على الناس أن يعبدوه لأنه – سبحانه - ربٌّ لجميع الخلائق لأن في الناس عظماء... وفي الناس ملوك... وفي الناس من يعبد غيره... قال جامع العلوم النحوي (4): وليس قوله (الناس) تكرارا لأن المراد بالأول: الأجنة... والمراد بالثاني: الأطفال... والمراد بالثالث: البالغون المكلفون... والمراد بالرابع: العلماء..."(5). نفيد من الطبرسي ما يأتي: في الناس عظماء, و في الناس ملوك, وفي الناس من يعبد غيره. سنعزز بها رأينا. ولم يخرج الطبرسي مما قيل قبلا, ونقله عن الجامع النحوي قاصر عما ذكره الدامغاني.
وقال الرازي ( ت 604 هـ ): "إنه تعالى رب جميع المحدثات ولكنه ههنا ذكر أنه رب الناس على التخصيص... فكأنه قيل أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم... كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم... ثم الربّ قد يكون ملكا وقد لا يكون كما يقال رب الدار ورب المتاع... ثم الملك قد يكون إلها وقد لا يكون فلا جرم بينه بقوله (إله الناس)... السبب في تكرير لفظ الناس أنه إنما تكررت هذه الصفات لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد من الإظهار"(6) . اقتفى الرازي من سبقه في: قد يكون... وقد لا يكون... وعزا تكرار (الناس) إلى دلالة عطف البيان ودوره في التركيب, وناقض من ذهب أن هذا ليس تكرارا.
وقال العكبري (ت 616 هـ):"أن أصل ناس عند سيبويه أناس فحذفت فاؤه وعند غيره لم يحذف منه شي وأصله نوس... وقال قوم: أصيله نيس مقلوب عن نسي... وفيه بُعد"(7). وقد كرر العكبري كلامه هذا في: التبيان في إعراب القرآن, ولم يضف إلى ما قاله اللغويون الذين سبقوه بل كرر آراءهم.
وقال القرطبي (ت671هـ):"قوله تعالى (قل أعوذ برب الناس) أي مالكهم ومصلح أمورهم, وإنما ذكر رب الناس وإن كان ربا لجميع الخلق لأمرين: أحدهما: لأن الناس معظَّمون فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا. الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم, وإنما قال: (ملك الناس إله الناس) لأن في الناس ملوكا يذكر أنه ملكهم, وفي الناس من يعبد غيره, فذكر أنه إلههم ومعبودهم"(8). نقل القرطبي ما قاله غيره, فانظر ما نقلناه عمن سبقه.
وقال النسفي (ت710هـ): "(قل أعوذ برب الناس) أي مربيهم ومصلحهم, (ملك الناس) مالكهم ومدبر أمورهم, (إله الناس) معبودهم, ولم يكتف بإظهار المضاف إليه مرة واحدة لأن قوله: ملك الناس إله الناس, عطف بيان لرب الناس, لأنه يقال لغيره رب الناس, وملك الناس, وأما إله الناس فخاص لا شركة له... وقيل أراد بالأول: الأطفال... وبالثاني: الشبان... وبالثالث: الشيوخ... وبالرابع: الصالحين... وبالخامس: المفسدين.."(9). كرر ما قيل قبل, فنتأمل.
وقال الخازن (ت725 هـ): "إنما خصص الناس بالذكر وإن كان رب جميع المخلوقات... وقيل إن أشرف المخلوقات هم الناس فلهذا خصهم بالذكر, (ملك الناس إله الناس) إنما وصف نفسه أولا بأنه رب الناس, لأن الرب قد يكون ملكا وقد لا يكون ملكا فنبّه بذلك على أنه ربهم وملكهم ثم إن الملك لا يكون إلها فنبَّه بقوله (إله الناس) على أن الإلهية خاصة بالله سبحانه... والسبب في تكرير لفظ الناس يقتضي مزيد شرفهم على غيرهم"(10) . ردَّد الخازن ما قاله الآخرون.
وقال أبو حيان الأندلسي (ت 745 هـ):"أضيف الرب إلى الناس لأن الاستعاذة من شر الموسوس في صدورهم, استعاذوا بربهم مالكهم و إلههم كما يستعيذ العبد بمولاه إذا دهمه أمر. والظاهر أن ملك الناس إله الناس صفتان, و قال الزمخشري: هما عطف بيان... بُين بملك الناس ثم زيد بيانا بإله الناس لأنه قد يقال لغيره رب الناس كقوله (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) وقد يقال ملك الناس وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه فجُعِل غاية للبيان"(11). ولم يختلف أبو حيان عمن سبقوه إلا في عدّ (ملك الناس إله الناس) صفتين, في حين عدّهما غيره عطفي بيان, وكلا التوجيهين في دائرة التوابع و دلالاتها.
وقال السمين الحلبي (ت 756 هـ): "قوله (ملك الناس إله الناس) يجوز أن يكونا وصفين لرب الناس وأن يكونا بدلين وأن يكونا عطف بيان. قال الزمخشري... واعترض الشيخ*..."(12). ولم يخرج السمين عن الدائرة النحوية في النظر إلى الآيات الثلاث, سوى أنه وسع ما ذهب إليه الزمخشري وأبو حيان, لكنه بقي في دائرة التوابع.
وقال البيضاوي (ت791هـ):"(برب الناس) لما كانت الاستعاذة في السور المتقدمة من المضار البدنية وهي تعم الإنسان وغيره... وخصصها بالناس ههنا, فكأنه قيل أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك أمورهم و يستحق عباذتهم. (ملك الناس إله الناس) عطفا بيان له, فإن الرب قد لا يكون ملكا والملك قد لا يكون إلها وفي هذا النظم دلالة على أنه حقيق بالإعادة... وتكرير الناس لما في الإظهار من مزيد بيان"(13). ويدور البيضاوي في دائرة المعنى التي رسمها من قبله.
وقال الفيروز أبادي (ت817هـ):"سميت سورة الناس لتكرره فيها خمس مرات, من المتشابه قوله تعالى (قل أعوذ برب الناس) ثم كرر الناس خمس مرات,قيل: كرر تبجيلا لهم على ما سبق, وقيل: كرر لانفصال كل آية من الأخرى بعدم حرف العطفوقيل: المراد بالأول: الأطفال, ومعنى الربوية يدل عليه وبالثاني الشبان ولفظ الملك يدل عليه لأنه منبئ عن السياسة وبالثالث الشيوخ ولفظ (إله) المنبئ عن العبادة يدل عليه, وبالرابع الصالحون والأبرار والشيطان مولع بإغوائهم وبالخامس المفسدون والأشرار وعطفه على المعوذ منهم يدل عليهم"(14). وقال في مواضع أخرى من كتابه: "ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى...وبالإضافة يقال لله تعالى ولغيره نحو رب العالمين ورب الدار, وقوله (إنه ربي أحسن مثواي) قيل إنه عنى به الله تعالى وقيل عنى به الملك الذي رباه"(15)."الملك اسم لكل من يملك السياسة"(16). ما نؤاخذه على الفيروزأبادي أنه قال بالتكرار في (الناس) وفي مواضع تال ذكر أن هذه المواضع الخمسة لها معان مختلفة فأين التكرار؟ ولعل العذر له يكون في (قيل) فهو ينقل!
وقال البقاعي (ت885هـ): "والرب من له ملك الرق وجلب الخيرات من السماء والأرض وإبقاؤها ودفع الشرور ورفعها... ولما كان الرب والملك متقاربين في المفهوم للقهر والاستيلاء وإظهار العدل ألزم, وكان الرب قد لا يكون ملكا فلا يكون كامل التصرف اقتضت البلاغة تقديم الأول وإتباع الثاني فقال تعالى (ملك الناس)...ولما كان الملك قد لا يكون إلها وكانت الإلهية خاصة لا تقبل شركا أصلا بخلاف غيرها أنهي الأمر إليها وجعلت غاية البيان فقال (إله الناس)"(17). كشف البقاعي هنا سر ترتيب الاستعاذة بالرب فالملك فالإله وهذا منطلق آخر سنكشف عن بلاغته لاحقا.
وقال أبو السعود (ت951هـ): "برب الناس أي مالك أمورهم... وقوله تعالى (ملك الناس) عطف بيان جيء به لبيان أن ترتيبه تعالى إياهم ليست بطريقة تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم... وكذا قوله تعالى (إله الناس) فإنه لبيان أنملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم... كما هو قصارى أمر الملوك"(18). ويدور أبو السعود في فلك ما دارت عليه أقوال من سبقه من المفسرين.
وقال الشوكاني (ت 1250هـ): "ومعنى رب الناس: مالك أمرهم ومصلح أحوالهم, وإنما قال رب الناس مع أنه رب جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم... و قوله (ملك الناس) عطف بيان جيء به لبيان أن ربّيته سبحانه وتعالى ليست كربّية سائر الملّاك... (إله الناس) هو أيضا عطف بيان كالذي قبله... وأيضا الرب قد يكون ملكا وقد لا يكون ملكا كما يقال رب الدار ورب المتاع... ثم الملك قد يكون إلها وقد لا يكون،فبيّن أنه إله... وكرر لفظ الناس في الثلاثة المواضع لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار"(19). و لم نجد جديدا ذا بال عند الشوكاني بل هو ترديد لما سبق قوله.
وقال محمود الآلوسي (ت1273هـ):"(برب الناس) أي مالك أمورهم ومربيهم... (ملك الناس) عطف بيان على ما اختاره الزمخشري... (إله الناس)... بيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم... وجوّزت البدلية..."(20).لعلك تدرك معي في ضوء ما تقدم أن هذا الكلام ليس جديدا.
وقال محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393هـ):"عُرِّف (رب) بإضافته إلى الناس دون غيرهم من المربوبين...وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيبا مدّرجا... وفي هذا الترتيب إشعار أيضا بمراتب النظر في معرفة الله تعالى, فإن الناظر هو يعلم بادئ ذي بدء بأن له ربا... فيشعر بأن ربه هو الملك الحق... ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إله الناس كلهم"(21). في كلام ابن عاشور إضافة مهمة هي: أن هذا الترتيب: رب, ملك, إله, إشعار بمراتب النظر في معرفة الله تعالى, و هذا ما سيعيننا لاحقا.
وقال سيد قطب (ت 1966م): "والاستعاذة بالرب, الملك, الإله, تستحضر من صفات الله سبحانه ما به يدفع الشر عامة, وشر الوسواس الخناس خاصة. فالرب هو المربي والموجه والراعي والحامي. والملك هو المالك الحاكم المتصرف. والإله هو المستعلي المستولي المتسلط. والله رب كل شيء، وملك كل شيء، وإله كل شيء"(22). وينطلق سيد قطب من المعاني اللغوية التي تجتمع عليها الألفاظ: رب, وملك, وإله.
وقال سعيد حوى (معاصر):"قل أعوذ برب الناس, قال النسفي... وقال ابن كثير..."(23). إنه يعول على الآخرين فيما قالوه.
وقال عبد الكريم الخطيب (معاصر): "وُصِفَ الله سبحانه و تعالى في هذه السورة بثلاث صفات... (رب الناس) أي مربيهم... و(ملك الناس) أي مالك أمرهم... و (إله الناس) أي سيدهم... وقد جاءت هذه الصفات الثلاث لله سبحانه وتعالى على هذا الترتيب: الربوية فالملك فالألوهية لتكشف عما لله سبحانه في الناس من سلطان متمكن"(24). ركز الخطيب على هذا الترتيب الذي سبق أن أشار إليه متقدموه.
وقال وهبة الزحيلي (معاصر):"تكررت كلمة (الناس) خمس مرات... الإضافة للتشريف والتكريم والاستعانة... قال أبوحيان... وقال الزمخشري... هذه صفات ثلاث لله عز وجل: الربوبية والملك والألوهية فهو رب كل شيء وملكيه وإلهه"(25). اعتمد الزحيلي على آراء سابقيه و صرح بأسمائهم وما نقله عنهم.
وقال محيي الدين درويش (معاصر):"وملك الناس وإله الناس بدلان أو صفتان أو عطفا بيان... قال في الكشاف..."(26). وهذا مذهب السمين الحلبي, تأمل ما مَرَّ!
وقال طنطاوي جوهر (معاصر): "(قل أعوذ برب الناس) أي مربيهم ومصلحهم (ملك الناس) مالكهم ومدبر أمورهم (إله الناس) معبودهم..."(27). و قد مر مثل هذا الكلام عند السابقين.
منطلقات و أضواء:
لقد نظرنا في أقوال القدامى والمعاصرين في الآيات الثلاث الأولى من سورة الناس, وهي على وجاهتها, وجدنا فيها ما يصلح أن ننطلق منه و نضيف إليه, ومن ذلك:
*الترتيب في الآيات:
رب فملك, فإله, مقصود عدّه (البقاعي) من مقتضيات البلاغة, و قال عنه أحمد الصاوي: "إنه ترتيب بديع"(28). ووقف عنده ابن عاشور و ألمح إلى أنه ترتيب مدّرج بمراتب النظر .
ونقول : إنه راعى الدلالة اللغوية في الترتيب و ذلك أن (ربّ) بالإضافة يقال لله سبحانه ولغيره مثل برب الدار أو الأسرة, و(ملك) أوسع دائرة من (ربّ) وأكثر أتباعا ومحكومين, و(إله) عامٌّ شامل خاص لا شركة فيه. ففي الترتيب استدراج دلالي, واستدراج عقلي, ليقود إلى التسليم بصفات الله و الاستدلال على مخلوقاته بأنه الملجأ والمستعاذ لتوحيده والإيمان به وهذا يتسق ومكيّة السورة وأجواءها وبناء عقيدة الإيمان.
*التكرار :
وردت لفظة (الناس) خمس مرات، ونذهب مع من ذهب أن لا تكرار فيها لأن لكلّ موضع منها دلالة خاصة وقد فصل الدامغاني كل المعاني التي وردت بها (الناس)  في القرآن الكريم وهي عشرة.
ونقول : معنى (الناس) الأول : في (ربّ الناس) لما تقرر عند الجميع أن (ربّ) بالإضافة تكون لله سبحانه ولغيره كـ رب الدار ورب الأسرة ، فتكون دلالة (الناس)هنا معدودة ومحصورة ليتدرج الله معهم حتى ينتهي بهم إلى الإطلاق والاستيلاء والتسليم.ومعنى (الناس)الثاني في(ملك الناس) أن دائرة الملك أوسع من سابقتها وأكثر عددا وأظهر قوة وسلطانا وأوسع هيبة ومكانا ، ولأن (ملك الناس) قد يكون لله تعالى وقد يكون لغيره أيضا. ومعنى (الناس) الثالث في (إله الناس)يعني الناس جميعا كقوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (29).فانظر إلى اللطف الرباني والسماحةالإلهية اللذين يستدرجان الناس على وفق عقولهم ومدراكهم ليأخذ بأيديهم إلى التسليم والهداية برفق وتربية ليبعد عن الفطرة السليمة ما ران عليهم من الشرك أو الجمود أو العناد ليقول لها: إن ذلك لا يخرج عن ملكوتي: ربا وملكا وإلها. فالأرباب دوني وكل الملوك في قبضة ملكي وجميع المخلوقات عبادي وأنا معبودهم الواحد الأحد الذي أعيذهم من شرور أنفسهم وسائر الشرور.
وقد اقتضى هذا الترتيب ما ظاهرة الانفصال فعدّه البلاغي أن هذا الفصل وصل خفي بغير أداة لاتصال المعنى وتدرجه ولمعاني النحو علاقة في ذلك من جهة أن التوابع بعضها يكمل بعضا وإيضاحاً واتصالاً في المعنى.                               
وعليه نقول وبالله نستعين :إن معنى (الناس) في الآيات الثلاث الأولى (رب الناس، ملك الناس، إله الناس)  ذو دلالات ثلاث وهي:
•    الدلالة الأولى: جمع معدود من الناس (عدد أسرة أو يتجاوزها قليلا).
•    الدلالة الثانية: عدد ما يكون عليه المحكومين لملك معين في بلد صغر أم كَبُرَ.
•    الدلالة الثالثة: الخلق جميعا.
 ....................................................
(1)    الكرماني (محمود حمزة): أسرار التكرار في القرآن، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الفضيلة للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة، 1977م، ص257-258.
(2)    محمد محمد أبو موسى:من أسرار التعبير القرآني- دراسة تحليلية لسورة الأحزاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1996م، ص42.
(3)    الزمخشري: الكشاف، 6/468.
(4)    هو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الأصفهاني الباقولي، توفي سنة 543هـ، المعروف بالجامع النحوي، من مؤلفاته: كشف المشكلات في علل القراءات النحوية واللغوية، وشرح الجمل في النحو، ينظر: الزركلي: الأعلام، 4/279.
(5)    الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن، 10/868- 869.
(6)    الفخر الرازي: التفسير الكبير، 11/376- 377.
(7)    العكبري: إملاء ما من به الرحمن، 2/298.
(8)    القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 20/178.
(9)    النسفي: مدارك التنزيل وحقائق التأويل، 2/387.
(10)    الخازن (علي بن محمد البغدادي): لباب التأويل في معاني التنزيل، ضبطه وصححه عبدالسلام محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م، 6/540.
(11)    أبو حيان الأندلسي: البحر المحيط، 8/331- 532.
(12)    السمين الحلبي: الدر المصون، 6/593.
(13)    البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 2/634.
(14)    الفيروزأبادي: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، تحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية، بيروت، د.ت، 1/557.
(15)    الفيروزأبادي: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، 3/29.
(16)    السابق: 4/520.
(17)    البقاعي: نظم الدرر، 8/612-613.
(18)    أبو السعود: تفسير أبو السعود، 7/216.
(19)    الشوكاني: الفتح القدير، 5/648.
(20)    محمود الألوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، 15/524.
(21)    محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، 15/632- 633.
(22)    سيد قطب: في ظلال القرآن، 6/4010.
(23)    سعيد حوى: الأساس في التفسير، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، ط2، 1989م، 11/6767.
(24)    عبد الكريم الخطيب: التفسير القرآني للقرآن، 8/1746.
(25)    وهبة الزحيلي: التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، 30/478- 479.
(26)    محيي الدين درويش: إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/456 .
(27)    طنطاوي جوهر: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، مؤسسة التاريخ العربي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط4، 1991م، ص290.
(28)    أحمد الصاوي: حاشية على تفسير الجلالين، راجعه علي محمد الضباع، دار الجيل، بيروت، 4/350.
(29)    النساء/1

تعليق عبر الفيس بوك