د. عبدالله باحجاج
المتأمل في مشهدنا الاجتماعي العام، ماذا سيخرج من رؤى واستشرافات كلية؟ ومن ثم كيف سيرسم مستقبل هذا المشهد، بوقائعه الاجتماعية المقبلة وفاعليه الجُدد -الديناميات- وكذلك مدى تأثيرهم على مستقبل المشهد السياسي؟ إمعان الفكر فيما تطرحه هذه التساؤلات ينبغي أن يشكل شغلنا الشاغل، وهو الغائب حاليا، إذا ما أردنا السيطرة على مجمل نتائج التحولات والمتغيرات في بلادنا.
النتيجة "الحاسمة" التي سنخرج بها من عملية التأمل، هي أن مجتمعنا قد دخل صيرورة تاريخية -الصيرورة هى انتقال من حالة إلى أخرى، أو من زمان إلى آخر- كعملية مرادفة لحركة التغيير والتحول في دور الدولة الجديد، وهذا يعني أن هذه الصيرورة طبيعية نتيجة لهذه التلازمية، وهذا يفسرنا الكثير من المسائل التي تظهر أو قد تظهر فوق سطحنا الاجتماعي؛ مثل: المبادرات الخيرية من قبل فاعلين اجتماعيين واقتصاديين، وهذه مؤشرات الصيرورة، المرتبطة بمرحلة التحول في الإنفاق الحكومي الذي تأثرت به تنميتنا الاجتماعية بصورة ملموسة؛ فرأينا تسابق فاعلي الخير على سد العجز الحكومي في بعض المجالات وتغطية حاجات مجتمعية ضرورية، وما يظهر فوق السطح هو ما يُعلم فقط، وما خفي أكبر. وهنا، ندعو كل فاعل خير إلى أن لا يخفي خيريته؛ فالعلن في مرحلتنا الوطنية الراهنة أفضل بكثير من السرية، لدواعي التحفيز والاقتداء، ولإيصال رسائل الخيرية إلى كل شبر داخل وطننا الغالي، وكل من يقتدي بالآخر، يتضاعف أجر الآخر عند الله عز وجل، وتتحول هذه العلمية إلى مصانع جديدة لإنتاج النخب العامة.
ففي أقل من شهر، تفجرت خمسة ينابيع خيرية في عدد من محافظات البلاد، وفي عدة مجالات صحية واجتماعية وترفيهية، كصحوة مجتمعية هى البداية فقط، وهى تعطينا مؤشرات استشرافية على ماهية المتغيرات الاجتماعية المقبلة، كما أنها ستتحول على المدى المتوسط إلى مصنع لإنتاج النخب المحلية والوطنية، والدفع بها إلى الاستوزار أو المناصب الحكومية الأخرى أو إلى الدولة أو الشورى؛ إذ لا يُمكننا النظر لحالات فاعلي الخير التي تظهر بصورة متصاعدة في مشهدنا الوطني، بمعزل عن التحولات التي تشهدها بلادنا اقتصاديا، ومن ثم ينبغي النظر لتفاعلها المرحلي مع قضايا التنمية الاجتماعية، أبعد من منظور سد حاجة تنموية نتيجة لفراغ في دور الحكومة التنموي، أو الارتهان للبعد الإنساني والوطني الدافع لهذه الخيرية الذي يحاول البعض إخفاء ذواتهم بسببها، أنها تؤسِّس بصورة اللاإرادية، وبطريقة تلقائية، طبيعة المرحلة الاجتماعية المستقبلية، في موازاة للمرحلة الاقتصادية التي تؤسسها الحكومة بعيدا عن إيرادات النفط والغاز.
فالتحولات الاقتصادية هى القاطرة التي تقود كل التحولات في بلادنا؛ سواء السياسية والاجتماعية أو البُنى الفكرية، وإعادة تشكيل الذهنيات، وهنا منطقة وعي جديدة نعلي من شأنها لضرورات الصناعة الاجتماعية التي ستقود بدورها القاطرة السياسية بالتبعية؛ فالحكومة تعلم الآن النتائج الاقتصادية لسياساتها المالية بما فيها الضريبية على خزينة الدولة على وجه الخصوص، لكنها تفتقر لهذا العلم على الصعيد الاجتماعي، بسبب اعتمادها المطلق على العلوم المالية والاقتصادية، وإقصائها العلوم الاجتماعية التي أبرزها علم الاجتماع وعلم المستقبليات؛ لذلك فالصناعة الاجتماعية تتم خارج الحسابات الحكومية، وكردة فعل على التحولات الاقتصادية ومسارات الإنفاق الحكومية، على عكس مرحلة السبعينيات من القرن الماضي، الذي كان الاقتصاد أهم الأدوات -إن لم يكن الوحيد- الذي كان يصنع المجتمع، ببناه المادية والروحية؛ حيث كانت الصناعة المجتمعية تخضع لإرادة سياسية واضحة، ومحكمة، ومستهدفة، لدواعي التحكم في نوعية الصناعة التي تتلاءم مع مرحلة بناء الدولة، وتحقيق تنمية الشاملة، إلى درجة الاستعانة بعدة علوم وخبرات في عملية تأسيس هذه الدولة، وبالذات على صعيد البعد الاجتماعي وفي المحافظات التي كانت لها تأثيرات سياسية محتقنة آنذاك.
وقد كان النفط عاملا محوريا وفاعلا في سيطرة الحكومة على هذه الصناعة؛ فعوائده قد وظفت لصالح التنمية الشاملة، وبها احتوت الفاعلين الاجتماعيين، وخلقت علاقة الاعتماد المجتمعي على السلطة في كل مناحي الحياة، إلى درجة أنها صنعت مجتمعا "تواكليا" في معظم المراحل السابقة، والآن وتحت هاجس العامل النفطي نفسه، يقود التحولات المجتمعية الجديدة، لكن من مسار مختلف تماما شكلا ومضمونا -الصيرورة- فانخفاض العوائد النفطية رغم تحسُّنها التدريجي، تستغله الحكومة منذ منتصف العام 2014 لإعادة هيكلة مالية لدولة بعيدا عن إيرادات النفط والغاز في رؤية مستقبلية، فيها الكثير من الآلام الاجتماعية من جراء رفع دعم الدولة عن المجتمع بصورة تدريجية، وتقليل الإنفاق على التنمية الاجتماعية -على عكس ما كان سابقا- ولنا في آخر تصريح لمعالي وزير الصحة عن التأمين الصحي التدريجي، وعن البحث عن موارد مستدامة للقطاع الصحي في بلادنا، وكذلك تصريح معالي وزير التجارة والصناعة لإحدى الصحف الجزائرية، مؤخرا، عن التحول إلى القطاع الخاص في تبني وإدارة بعض المستشفيات الحكومية الجديدة، ما يوضِّح لنا فعلا ماهية المتغيرات المجتمعية المقبلة، ويعزز زمنية حدوث الصيرورة -شكلا ومضمونا.
ومن ثم، فإن حالات فاعلي الخير، ستتحول إلى ظاهرة داخل مجتمع محلي، سيعمل من خلالها كل مجتمع على إعادة صناعة ذاته بذاته، وتشكيل فاعليه من فاعلية وتفاعلية النخب نفسها مع حاجيات مجتمعاتها المحلية في ظل تحولات الحكومة سالفة الذكر؛ فالزرعي مثلا قد تفجرت خيريتيه لمجتمعه المحلي تفاعلا مع حاجة صحية ضاغطة، فتبرع عن طواعية بـ700 ألف ريال، وكذلك الحال مع بقية الفاعلين والتي كان آخرها في البريمي كذلك، عندما تبرع فاعل خير ببناء أكثر من 120 منزلا ليتامى وأسر محتاجة في محافظته، وهذه ظاهرة تقود حتى الآن التفاعلات الخيرية، ربما يكون وراءها دافع ثيولوجي، قد نجده في حديث رسول الله صلى الله وعليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، ودرجة القرابة في دافعية فاعلي الخير جغرافية في عمومها، على اعتبار أنَّ حجم ثروات الفاعلين كان مصدرها هذا النطاق الترابي أو أنه يشكل -هذا النطاق الترابي- محتوى عواطفه المكانية، وبالتالي، هو الأولى بالخيرية. وعلى اعتبار كذلك، أن مشروعه الخيري سيتفيد منه كذلك درجة القربي الاولى ضمن المستفيدين المجتمعيين، وكمثال التبرع بمشروع جهاز للقلب بمبلغ 200 ريال في ظفار، مثل هذه الدوافع الاجتماعية والخيرية، تقف عوامل أساسية للتفاعلية المناطقية مع الحاجة الاجتماعية، وهى التي ينبغي الرهان عليها، والعمل في الوقت نفسه على تحفيزها من خلال منابرنا الإسلامية بصورة منتظمة وممنهجة، ومنها يمكننا أن نخلق الموارد المستدامة للتنمية الاجتماعية؛ فالذهنية الاجتماعية في غالبيتها، تؤطرها وتسيرها المرجعية الإسلامية، خاصة الآن بعد أن تأسست منظومات للثروات الخاصة، وتضخمت أصولها وفوائدها، وشعور أصحابها بثقل المرور السنوي على مكتسبهم العمري التنازلي، ويمكننا من خلال الترويج للبشارات العشر للنبي -صلى الله عليه وسلم- لفاعلي الخير والعاملين فيه -سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات خيرية- أن تضمن لمجتمعاتنا المصدر المالي المستدام، ونشير إلى اثنتين منها فقط:
- البشرى الأولى: روى مسلم عن أبي هريرة -رضى الله عنه- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحبَّ إليَّ من أن اعتكف في المسجد شهراً (مسجد المدينة)".
- البشرى الثانية: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشتكي قسوة قلبه، فقال له: "أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك". فمن يحرم نفسه هذا الخير العظيم في الدنيا والآخرة؟
لم تتوافر سابقا ظروف ومعطيات الصيرورة الاجتماعية بسبب دور الدولة الريعي، مثلما تتوافر الآن بصورة كاملة في دورها الجبائي الجديد؛ بحيث أصبحت الأبواب كلها مفتوحة ومشروعة للمجتمع المدني، وهو ما أكد عليه معالي وزير التنمية الاجتماعية في تصريح على هامش المنتدى العماني للشراكة والمسؤولية الاجتماعية، الذي نظمته جريدة "الرؤية"، الأسبوع الماضي، عن ثلاثية القطاعات في بلادنا، وهى الحكومية، والخاصة، والمجتمع المدني، والمؤشرات تشير إلى سيادة المجتمع المدني في مستقبل التنمية الاجتماعية في بلادنا. وتلكم الحالات الخمس أهم المؤشرات الدالة على هذا المستقبل في ظل الرهان الحكومي عليه، خاصة في ظل وجود محفزات دينية على الفعل الخيري -أي أنَّ الصيرورة تقودها الآن منظومة سلوكية نفسية -لكن نتائج هذه الصيرورة سترتبط وجوديا بحجم وماهية تخلي الحكومة عن التزاماتها الاجتماعية المعتادة منذ العام 1970- ويبدو أن الحجم والماهية سيكونان كبيرين وفق أبعاد تصريحات وزيري الصحة والتجارة والصناعة سالفي الذكر، وكذلك بمدى مستقبل الطابع المؤسساتي للمجتمع المدني، ومدى استقلاليته؛ مما قد يصبح المجتمع المدني معه أهم المصانع نجاعة في صناعة النخب المحلية والوطنية التي ستفرض نفسها على مشهدنا الاجتماعي والسياسي مستقبلا.