"خلية لندن" وداء المراهقة الفكرية

 

علي المعشني

المراهقة.. مرحلة عمرية يمرُّ بها الإنسان في مقتبل حياته، وتتسم بالرعونة وحب الاكتشاف لكل شيء من حوله، وتتشكل فيها الحياة والواقع على شكل أخيلة لا تنتهي؛ حيث ينظر المراهق إلى الحياة من حوله على أنها ملكٌ له وطَوع بنانه، ويبالغ كثيرًا في ممكناته وقدراته وتأويل الأشياء من حوله، ويرى في نفسه الخوارق وإمكانية تحقيق كل شيء عجز عنه الناس وتطويعه، وينظر إلى الآخرين ونصائحهم وتريُّثهم وعقلانيتهم نظرات سخرية واحتقار.

لهذا؛ تعد مرحلة المراهقة أقرب إلى الحالة المرضية النفسية منها إلى الحالة الفسيولوجية العضوية؛ حيث تحتاج رعاية وتربية خاصة ونفسا طويلا في الحوار والتوجيه. وهناك من الناس من تُبعث بداخله مرحلة مراهقة متأخرة، لكنها أقل شغبًا وأكثر اتزانًا من سابقتها بكثير، ويمكن للفرد السيطرة عليها بنفسه، ومواكبتها حتى تمر وتنتهي.

أما المراهقة الفكرية للفرد والمجتمعات، فتختلف في الشكل، لكنها لا تختلف في المضمون؛ حيث تصفها الكاتبة رشا ممتاز فتقول: "لا تزال العاطفة هى المحرك الرئيسى للإنسان العربى أيا كان مستوى تعليمه أو ثقافته، يستوى فى ذلك من لا يعرف الألف من كوز الذرة بمن يحمل أعلى الدرجات العلمية!

فعدد لا بأس به من المثقفين أو المواطنين الواعين المعبرين عن ذواتهم عن طريق الكتابة ما زالوا يعيشون مرحلة الفعل ورد الفعل، ولا تنبع مواقفهم عن إيمان واقتناع، ولكن غالبا ما تتشكل الآراء بفعل صدمة نفسية أو تجربة مريرة تعرض لها الكاتب لتتغلب المعاناة والمشاعر على التحليل والمنطق؛ فتأتى المواقف متعصبة متشددة، تفتقر للتقييم الهادئ لواقعنا المحبط. فتجد كثيرا من المقالات شديدة اللهجة قاسية المحتوى مغرقة فى السطحية منطلقة كسيارة يقودها سائقها بسرعة جنونية تحت تأثير الشراب! تنحو أقصى اليمين المهلل أو اقصى اليسار المعارض، مبتعدة آلاف الأميال عن الاتزان والنقد الموضوعي الهادف" (انتهى).

ومنذ العام 2011، هطلت على مسامعنا وأمام أعيننا ألقاب مجانية عجيبة وغريبة، لا وجود لها في أي قاموس سياسي أو علمي، وهم فئات النشطاء بأنواعهم، والذين منحتهم قنوات الفتنة تلك الألقاب المجانية للزوميات إلهاء الناس وإغوائهم، وتجميل الباطل والقبيح في أعينهم وترسيخه في وجدانهم، والغريب أن السُّذج طابت لهم تلك الألقاب المجانية وتشبهوا بها فانطلقوا كالثيران الإسبانية الهائجة في حلبات المصارعة للنيل من أوطانهم والتشدق بجمل وعبارات لا يعلمون معانيها ولا مدلولاتها، وصدقوا أنفسهم بأنهم دعاة حقوق ومطالب عادلة كمارتن لوثر كينج والمهاتما غاندي وغيرهم، واعتقدوا جهلًا بأنهم أبطال تحرر وطني ومناضلون وسيتمكنون من فرض واقع جديد في أوطانهم، وأن أفكارهم حلول جذرية لمعضلات ومشكلات مستعصية.

"خلية لندن" كغيرها من الخلايا الخليجية والعربية التي فتحت لها العاصمة البريطانية أبوابها، كما فتحت تاريخيًّا أبوابها لكل معول هدم للأمة العربية أو قطر عربي بعينه، فأنبتت تنظيم الإخوان المسلمين واحتضنت قياداتهم ومركز اتحادهم عام 2005، ولا توجد استضافات مجانية لمثل هكذا حالات، فبعضها تدخل ضمن خطط طوارئ لتلك البلاد في لحظات تاريخية بعينها، وبعضها للابتزاز السياسي لبعض البلدان ونشر التضليل والفتن، وبعضها للتوظيف الاستخباري البحت.

"خلية لندن" بكل تأكيد لا تفرِّق بين معارضة الحكومة ومعارضة الوطن، ونحن في السلطنة ومنذ العام 2011، الكثير منا من كتاب ونُخب وعوام نمارس نقد الأداء الحكومي في وضح النهار وأحيانًا بدرجة تجريح بامتياز، ولكننا نحافظ على الخطوط الحمراء التي يتوقف عندها كل عاقل وغيور، وهي النيل من الوطن أو التجاسر عليه أو النيل من قائدنا ووالدنا ورمز وحدتنا المقام السامي لجلالة السلطان قابوس -حفظه الله ورعاه. بل وحتى البعض منا ممن شطت بهم الحماسة وزلت بهم الأقلام والأقدام لم ينالهم أي سوء من الأجهزة المعنية -وبإقرار منهم- بقدر ما كانت فترات ترشيد وحوارات عقل ومعالجات في أجلى صور التقدير للعقل وكرامة الإنسان. المعارضة الحقيقية في أدبيات السياسة وقواعد الحكم تقدم المشورة والنُّصح، وتمارس التنوير وتتجنب التحريض والتأليب، وتراعي منسوب الوعي وتفاوته بين الناس والممكنات لهذا تسمى بحكومة الظل في أدبيات السياسة. المعارضة الحقيقية تمارس النقد البناء المُثمر وتفرق بين الممكنات والطموح والأحلام الوردية، والمعارضة الحقيقية لا تتصيد الأخطاء وتغطي الحقائق وتتجاوزها، ولا تهول من الصغائر وتستصغر الكبائر من المنجزات.

"خلية لندن" -رغم عُمانيتها- فهي لا تدرك قواعد الحكم في السلطنة ولا تعلم شيئا عن نظريات الحكم ولا عن أسباب تفاوت نُظم الحكم في العالم؛ لهذا تحتطب الأفكار كحاطب ليل وتغرد بها دون وعي أو إدراك.

"خلية لندن" لا تعلم ولا تدرك ما تدعو إليه بتكرار سيناريو 2011؛ فهي لا تعلم بلا شك أننا ندفع ضريبة رعونة تلك الأحداث اليوم، والتنازلات غير المدروسة من قبل الحكومة حينها لاحتواء الشارع ومنع انزلاقات أكبر. وكان حريًّا بها لو توافر لها الوعي وحسن النية أن توضح للناس حقيقة الوضع وخطورة تكرار سيناريو وأحداث العام المذكور، والاحتكام للأقنية القانونية والوسائل المتاحة لإيصال المطالب ونيل الحقوق. "خلية لندن" ما زالت تعيش بعقلية الأثر الرجعي، وتعتقد أن مباغتة المواطن العماني ودغدغة مشاعره اليوم بأسطوانة مشروخة عنوانها التوظيف والفساد سيجعله يحرق الأخضر واليابس، ولا تعلم أن السنوات السبع العجاف تعلم منها العُماني الكثير والكثير جدًّا، بعد أن رأى بأم عينه شعوبا بأكملها تحولت بفعل تلبيتها لدعوات مشبوهة مراهقة من العزة إلى التسول والتشرد في بقاع الأرض. "خلية لندن" لا تعلم أن خطابها خشبي ومغموس في الكثير من الكيدية والحقد والخيانة والتورية الخبيثة والوقاحة والتشهير والسطحية، وإن ما يدور في الشارع العُماني من حديث عن ذات المعضلات وحلولها أكثر نضجًا وعفة وواقعية وعقل ورشاد.

"خلية لندن" يبدو لي أنها مُصمَّمة على حرق كافة جسور العودة وصفح الوطن بممارساتها ودعواتها والتي أصبحت مادة للتندر والسخرية في الشارع العُماني، فمشكلتهم أن الشارع العُماني اليوم يفوقهم وعيًا وإدراكًا ومسؤولية، ولابد لمن ينتحل صفة المعارضة أن يكون فوق مستوى الوعي العام كي يقوده ويشكله، وليست إعادة تدوير الموجود في قوالب عاطفية ووعود فردوسية لا تسمن ولا تغني من جوع.

"خلية لندن" لا تدرك أنها مكشوفة إلى حد العري التام للعُمانيين في شخوصهم وحصيلتهم وزادهم المعرفي وتاريخ كل منهم الشخصي، وأن ما يتم تداوله بين العمانيين ومؤسساتهم سقف وحدته أعلى بكثير من طرحهم وتحريضهم، وشتان ما بين دعوات لندن وما أدراك ما لندن في الوجدان العُماني والعربي، وما بين دعوات مسقط بغيرتها ووطنيتها وواقعيتها. "خلية لندن" لا تعلم عن شيء اسمه المثقف العضوي الذي يتفاعل مع شؤون مجتمعه إلى حد الذوبان، ويتنازل عن كل قناعاته قاطبة حين يحضر الوطن ومصلحته وتحيق به المؤامرات والدسائس، بينما لا تزال خلية لندن تفكر بطريقة نجم الشباك ورجل الأضواء الأوحد الذي ينتصر لذاته المريضة، ويصطاد في الماء العكر؛ حيث يحلو له المناخ وتروق له فرص الظهور والبروز وتحقيق الأنا على حساب الوطن.

واقعنا اليوم للأسف ينطق بعكس الآية الكريمة التي تحذر من إمارة المترفين في البلاد وعلى العباد ليفسدوا فيهم، وأصبحت الإمارة اليوم لمن انتحلوا صفات الناشطين والمثقفين ليتم على أياديهم خراب الأوطان ودمارها وتسميم العقول وحصارها.

"خلية لندن" تعتقد جهلًا أنها اختزلت الوطنية والغيرة على الوطن والرؤية الثاقبة والبصيرة، وأن بقية العُمانيين جبناء وقاصرون في فهمهم ووطنيتهم، ولابد من وصي عليهم، بينما أغلب العُمانيين اليوم وفي هذا الظرف التاريخي بالذات يدركون جيدًا فن الممكن وحدوده وآليات المطالبة به، فالعُمانيون مؤمنون والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.... وبالشكر تدوم النعم.

--------------------------

قبل اللقاء: العُمانيون على يقين تام بأنهم تحت حكم أبوي رشيد لم ولن يسمح يومًا بظلم لهم، أو ضيم عليهم.. ومن هنا، تبقى جميع الدعوات اللندنية، وما على شاكلتها، كالذاريات في عين الشمس لا مستقر ولا أثر لها.

حفظ الله عُماننا وسلطاننا بماحفظ به ذكره المُنزل العظيم من كل مكر وشر وسوء ومكروه.

 

Ali95312606@gmail.com