دعوا التاريخ بعيدًا عن حروبكم


زينب الغريبية

تركنا التاريخ والاهتمام به، تركنا تفحصه وتعيين مؤرخين علماء متّزنين لتقصيه وكتابته، ظنا منّا أننا أبناء الحاضر، والتاريخ شيء قد مضى، فَلِمَ نهتم به؟! فالحاضر مختلف ويحتاج للتقنية والصناعة واللغات الأجنبية لمجارات العالم والحياة بعلومها الحديثة، نعم من الأحرى الاهتمام بحاضرنا وصناعة أنفسنا ليكون لنا موقعنا بين الأمم، ولكن.. هل يعني ذلك أن نترك هويتنا وما نستند عليه من إرث تاريخي بمجالاته السياسية والثقافية والحضارية؟!
آلمني ما أسمعه هنا وهناك من أناس يعدون من المؤثرين على الجمهور، وتنتشر مقولاتهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي فيديوهات ومقالات، يغيّرون في تفاصيل التاريخ لتوجيه الرأي العام نحو قضية في حروب سياسية، وتلامس أقوالهم رغبات الكثيرين ليقوموا بنشرها وتعميمها، لتستخدم في الحرب الإعلاميّة المصاحبة، غير آبهين بتزوير الحقائق، ودراية منهم بمدى تأثر الجمهور وارتباطهم العاطفي بالتاريخ، وأنّه محفز نحو المضي في مواجهة موقف ما.
إننا نعيش مرحلة سطو كبيرة جدًا لم يكتفِ فيها كثيرون بالسطو على الثروات وتبديدها في قتل الناس ودعم التطرف في كثير من مناطق العالم، ولم يكتفوا بالسطو على الجغرافيا وإعادة رسم حدودها وتغيير معالمها، ولم يكتفوا بالسطو على العقول وشلها عن التفكير بزرع الأوهام فيها، ومنعها من التفكير لأنّهم يفكرون نيابة عن الناس، بل إنهم يريدون أنّ السطو على التاريخ ذلك البعيد الذي هجره كثيرون، ويعيدون تفسير أحداثه لأجيال لا تعي مما يحدث أمامها شيئا فما بالكم أن تعي ما حدث في التاريخ.
يخرج هؤلاء الذين يعدون مرجعيات فكرية أو أكاديمية يقدمون قراءات غير موضوعية للتاريخ، قراءات يريدون أن يبرروا بها ما يحدث في الحاضر، ويحرضون بها على الكراهية لشعوب معينة، ولا تزال عملية السطو هذه مستمرة تهدأ أحيانا وتثور أحيانا أخرى، ويبدو أنّها تعبر عن نهج، وتأتي في مرحلة زمنية ازداد فيها الجهل بالتاريخ والتفكير في رواياته بين الناس، ولذا يستغل هؤلاء جهل الناس لتسويق مثل هذه التفسيرات، التي لا سبيل لمواجهتها إلا العودة للاهتمام بعلم التاريخ، وتدريسه بدلاً من تهميشه لأنّها غير ذات قيمة من وجهة نظر السوق الذي بات يتحكم في قرارات التعليم على مختلف المستويات.
ظنّ البعض أنّ الذين بدون تاريخ سيكتفون بالحاضر، ولكن يبدو أنّ هناك "عقلية استحواذية" تريد أن تستحوذ على كل شيء الحاضر والماضي، تريد أن تبحث لها عن جذور لأنّ جذورها التاريخية قصيرة، وفي ظل هذا التنازع حول التاريخ من يجرؤ أن يقول أنّ التاريخ غير ذا قيمة في أمّة راسخة الجذور، متنوعة الأعراق، متعددة العادات والتقاليد، لا يمكن أن يفهم حاضرها بدون دراسة ماضيها، فلما نترك أبناء التاريخ يجهلون تاريخهم، ويكونون عرضة لمثل هؤلاء يتلقون منهم تاريخ مزيف، قد يسلم به البعض نتيجة جهلهم بالتاريخ، وقد يصدقه البعض نتيجة عدم إلمامهم بتاريخ بلدهم، فماذا نحن فاعلون بتاريخنا في منطقة يحاول البعض  فيها كتابة تاريخ جديد وبرؤية جديدة، هل سنكتفي بالتفرج على ما يجري أم ستكون لنا ردة فعل إيجابية وفعّالة وعمليّة؟
لابد أن نلتفت إلى تاريخنا، ونعيد الاهتمام بتدريس كتاب متخصص في المدارس عن تاريخنا العماني والإسلامي يبدأ من الحلقة الثانية ويستمر حتى نهاية الصف الثاني عشر، وأن نقدم مسابقة للأبحاث التاريخية لطلبة المدارس، وكذلك يجب أن يدرس مقرر إجباري في تاريخ عمان لطلبة الكليات والجامعات، يحكي قصة الحضارة العمانية وأعلامها، ونطاقها والشعوب التي ساهمت فيها، والتاريخ الإسلامي من حولها، هذا فضلا عن أنّ الاهتمام بالتاريخ في الإعلام المقروء والمكتوب والمرئي، من حيث الأفلام الوثائقية، وغيرها من البرامج النقاشية، ويمكن أن يقدم برنامجًا تلفزيونيًا حول "قصة الحضارة العمانيّة" يتم فيها استضافة متخصصين للحديث عن مراحلها المختلفة، والاهتمام بالمخطوطات وتحقيقها وإتاحتها للباحثين والراغبين في القراءة، علاوة على النشر للكتب التاريخية والتي أوليها في دار الوراق عناية خاصة حيث نشرنا حتى الآن بعضها، ومن هنا أدعو كل من لديه كتاب في التاريخ العماني للتواصل مع الدار من أجل نشر كتابه والمساهمة في ترسيخ المعرفة بالتاريخ العماني.