"علبة لبن" تُظهر إن كنا في نمو وتطوُّر

حمد بن سالم العلوي

قبل سنوات، كان لدينا مصنع للحليب والألبان في صُحار، وكان لدينا مصنع آخر للألبان في الغُبرة بمسقط، وتُعرف قيمة هذه المصانع في رمضان، وتجد السوق مغمورا بالمنتج الوطني. أما اليوم، فتدخل أي محل فلا تكاد تجد المنتج العُماني من الألبان، إلا تلك الآتية من وراء الحدود، وقد يختلف اثنان على أخذ صورة تذكارية، فيرتد ذلك خلافاً بينهما، فيغلقان الحدود بينهما، فعندئذ علينا أن نفطر على التمر والماء، خاصة هذه الأيام؛ حيث أخذت العلاقات بين بعض الدول تحكمها نظام لعبة "الهَنْد"، فإذا اختلف اللاعبون يحصل شد عنيف؛ الأمر الذي ينعكس على الناس فتتقطع بهم السبل، ولن ينفع الحياد الإيجابي أو السلبي أحياناً، ليروينا لبناً في رمضان.

وإذ نركِّز اليوم على أرزاق الناس، فنعود بالذكرى إلى الأمس القريب حيث كان لدينا مركز للتسويق الزراعي، وله فروع في معظم الولايات العُمانية، وفيه منتجات زراعية عمانية، وكانت الأمور طيبة وكان الكل مستفيدا، واليوم المركز أحيل إلى التقاعد، والمزارع العُمانية سُلِّمت للوافدين، يعبثون فيها كيفما شاءوا. وكذلك بالأمس كان لدينا مصنعان للتمور، أحدهما في نزوى والآخر في الرستاق، فلم يبق لهما أثر حتى نقول "أصبحا أثراً بعد عين".

أليس في هذا الأمر غرابة؟! وأليس المنطق يوجب النمو والتكاثر؛ وذلك مواكبة لنمو البلد وتقدمه، وزيادة عدد سكانه وزيادة المتعلمين فيه؟! إن الأمر العجيب أن تتلاشى هذه المصانع، وتختفي من الوجود، وكأننا لم نعد نحتاج إلى منتجاتها على الإطلاق، فهذه ظاهرة غريبة وخطيرة، ويا ليتها توقفت عند مصنع اللبن والتمر، بل تجاوزت ذلك بكثير، فوصلت إلى شخصية الإنسان العُماني في سلوكه، فعلى سبيل المثال كان الموظف المسؤول بالأمس إذا جئته تجده مسؤولاً ملء ثوبه كما يقول المثل، رغم أنه كان يعيش مشقة وشظف العيش، ومع ذلك صدره أكثر رحابة، ونفسه أكثر تقديراً للناس، أما إذا جئت الموظف المسؤول اليوم، فتجده بنصف شخصية مسؤول الأمس، وهو ينعم بالرفاهية وبيئة عمل ذات مواصفات جيدة، وينعم برغيد العيش مقارنة مع ما كان عليه أخوه بالأمس، وتجد نفسه متعبة ويحدد مقابلاته للناس بالقطارة، وكأنه أتى مِنة منه وتفضلاً عليهم ليجلس في المكتب.

إذن، هذه الظواهر السلبية التي أخذت في البروز، يحتاج أمرها إلى دراسة وتشخيص، وذلك لمعرفة مواقع الخلل الذي أسس لحدوثها واستفحالها الذي لا يطمئن على المستقبل، فهذا الانعكاس السلبي على الحياة الاجتماعية، سيؤثر على تقدم الوطن ورقيه، وسنظل ندور في حلقة مفرغة، تعرقل التقدم والتطور لعُماننا الحبيبة، وإن النوايا الحسنة لا تقدم إنجازاً مهماً في الحياة، وإن كانت ضرورية للتأسيس عليها، فهل تبادر الجامعات لفعل هذا، وذلك في ظل غياب مراكز الدراسات الإستراتيجية.

تُرى، هل أخذ الناس بمقولة معالي الوزير يوسف بن علوي للزعيم القذافي؟ عندما طلب وزراء الخارجية ليسألهم ماذا سيفعلون لأجل إخراج مؤتمر القمة بشيء جديد، يوم اجتمعت القمة في ليبيا، فبادره معالي الوزير يوسف بالقول: "لا نفعل شيئا"، فاستغرب قائد الفاتح من سبتمبر من ذلك الرد، وبالطبع معالي الوزير كان مُحقاً في الذي قاله، لأنه يعلم من واقع خبرته أن اجتماعات العرب ما هي إلا حفل استقبال وتوديع، فهو لم يقلها هكذا ولكن أنا تخيلتها كذلك، ولو كان حال العرب غير ذلك، لكان وضعهم اليوم مختلفاً عن الأمس، وشأن الأمة مختلفاً بعد مضي سنين طويلة.

إنَّ الذي أطمح إليه كإنسان عُماني، أن ننأى بأنفسنا عن تقليد سلبية العرب في تطوير وطننا عُمان، وأن نكون شعباً مبادراً، وذلك حتى نرتقي بوطننا، أما أن لا نفعل شيئاً، فهذا أمر لا يرضي طموح قائد عُمان الفذ الكريم، الذي طلب من العمانيين يوم تولى زمام الأمور في البلاد، أن يتحدوا ويتعاونوا لكي يعيدوا ماضي عُمان المجيد، فنحن لدينا مرسم طريق واضح، ومعلمٌ شاهد على جدية الآباء والأجداد، وذلك في العمل والرقي بشأن الأمة العُمانية، وأن لا نظل ندير مؤسسات الدولة بسلبية بغيضة، فهذا النمط يعرقل ويؤخر التقدم.

... إنَّ المصانع التي اختفت كان يجب أن يكون عددها اليوم بالعشرات، أو حتى بالمئات، فأين النسبة والتناسب بين مصانع كانت في سبعينيات القرن الماضي مفردة أو ثنائية، واليوم لا نجد مجرد أثر لها للذكرى والاعتبار، وقرقعة التقدم والتصنيع تصم الآذان. أننا نعلم أن البيروقراطية والعقد الإدارية، لن يفك عقالها بالتمني، وإن وحدة الدعم والتنفيذ يجب أن تنشط، وان تكون فاعلة ومؤثرة حتى تقضي على طلاسم التراجع والتأخير، وذلك كي ينتشر التطور في البلاد، وإن سبب تشتت الجهات المسؤولة، قد يكون هو مكمن الخطر على ضعف الإنتاج، وكذلك ضعف إرادة المسؤول على الإقدام والمبادرة والإبداع، وربما كان لسان حاله يقول دعني وشأني، أدعك وشأنك، لكننا نريد أن نرى ذلك المسؤول الذي يشع فكره بالوطنية، وأن يفاخر بما أنجز على أرض الواقع، لا بما يقال للإعلام من كلام معسول، وحقيقة يوجد بضع نفر من المسؤولين، قد عملوا وأجادوا، ولكن البعض الأكبر عقَّدوا وما ندموا، وما سُئِلوا عن تقصيرهم.. اللهم احفظ وطننا من الخمول والكسل واللامبالاة.