كرسي الوزير

 

زينب الغريبيَّة

ما الذي يُمكن أن يحدث لو جاء الوزير يوما إلى مكتبه ووجد كرسيه لا يصلح للجلوس عليه؟ والكرسي لا مثيل له، ولا يُمكن استبداله بسرعة لأنه مُستورد خصيصا للوزراء ولا أحد غيرهم، فيه مَيْزة لا توجد في الكراسي الأخرى، وهي مُميِّزات تجعل الوزير يتحرَّى العدل في كلِّ القرارات التي تعرض عليه، وتساعده على كشف ادعاءات الدائرة القريبة من الموظفين الذين يدخلون عليه، الوسطاء بينه وبين المواطنين والموظفين معا؛ فلو دخل عليه أحدهم وقال له: نريد أن نرفع هذه الموظفة وننزل هذه الموظفة لأنها مجتهدة أكثر مما ينبغي يستطيع أن يعرف الزيف من الحقيقة، ويعمل على تحرير نفسه مما يراد له من مصير، وهو أن يكون ظالما ولا عائد يمكن أن يستفيده من الظلم، أو أن يقصي كفاءات وطنية من حوله، ويعيق وزارته وبلده من التطوُّر، لا لشيء إلا تحقيقا لرغبات من حوله!!

ولكن، كيف يمكن أن يعمل معالي الوزير والكرسي الذي يحمل هذه المميزات يحتاج إلى صيانة فترة من الزمن؟ كيف يمكن أن يمضي في أداء مهمته الجسيمة التي يسأل فيها عن كل شيء؟ هل يتخلى عن شرط العدالة ويستعير الكرسي الذي يجلس عليه أحد نوابه، ويتحمل ما يتطلبه ذلك الكرسي من تعطيل لتلك المميزات التي يمنحها له كرسيه؟ أم يخرج في إجازة حتى يعود الكرسي؟ أم يصر على البقاء في مكتبه ويجلس على أي كرسي متنازلا عن العدالة لأنها ربما لا تمثل قيمة يجب الحرص عليها، خاصة إذا كانت تمر بمراحل ضعف على مختلف المستويات، ولا أحد ينكر ضعفها، ولا أحد يعنيه الآثار التي تنتج من تدهورها؛ فالباطل يصبح عدلا والعدل يتحول باطلا سواء كان الكرسي موجودا أو تحت الصيانة.

كل تلك الخيارات مفتوحة؛ والوزير الذي كان "كرسيه تحت الصيانة" في الحلقة التي عرضت في مسلسل "كلام الناس" قبل أربع سنوات، انتهز فرصة أخذ الكرسي للصيانة للخروج لأول مرة من مكتبه، الذي يدخله من باب خلفي لا أحد يعرفه فيمكث فيه طوال فترة بقائه في الوزارة، وحين أراد الخروج لم يعرف الكود الذي يستخدمه موظفوه بالخارج لإغلاق الباب عليه حتى لا يدخل عليه إلا من يريدون دخوله، فكان أول نجاح حققه هو تمكنه من فتح الباب، ووقف عند باب أحد موظفيه بالسكرتارية حيث وجد عنده مجموعة من المراجعين، سمعه يقول لأحدهم: "اذهب واترك الموضوع لي، وأنا سوف أحققه لك، فهذه الوزارة "في جيبي"، ولا يُمكن أن يُتخذ قرار لا أوافق عليه". فشعر الوزير بصدمة كبيرة، فهو لم يكن يتخيَّل أن ما يحدث بالخارج بهذا الشكل، وواصل تجواله حيث وجد مكاتبَ مغلقة، وأخرى مفتوحة ولا أحد فيها، ووجد مراجعين ينتظرون، فجلس معهم، وسمع منهم ما لم يسمعه من قبل، بل إنَّ أحدهم قال له: "إن كان لديك معاملة هنا، أطلب العون من الله". وبدأ معالي الوزير بعد سنوات يكتشف أنَّ هناك واقعًا مريرًا في وزارته، وأنَّ الفساد متغلغل في مختلف دوائرها، وأن موجات الكرسي الذي أخذه للصيانة لم يكن كافيا ليجعل وزارته نظيفة مما يسمعه عن وزارة أخرى.

هذه الحلقة -التي أدعو الجميع للعودة لمشاهدتها مرة أخرى- تعكس واقعا مؤثرا تعيشه بعض الوزارات، ويوم عُرِضت أثارت استياءً كبيرًا جدًّا في المنطقة على الفساد الإداري وضعف الرقابة والمحاسبة، اللذين جعلا البعض يعطل من قيم دولة المؤسسات، ويعيق التنمية في بلده بمثل هذه الممارسات.

يُمكن للبعض أن يطلق العنان لتفكيره؛ ما الذي سيفعله الوزير بعد كل ما اكتشفه؟ هل سيعود إلى مكتبه ويتغاضى عن كل ما رآه ويترك المركب تمضي كما هي؛ لأن للعدالة ثمنا لا يقوى على دفعه، وللتخلي عما حوله أيضا كلفة لا يطيقها، ولا يعرف إلى أين يمكن أن تقوده فخير له أن يكون ظالما آمنا في مكتبه من أن يكون عادلا يخرج لموظفيه يتفقدهم ويعرف ما يعانون منه، ويسمع من الجميع ما الذي يجري من حوله، أم أن هذا الوزير يقرر أن ينقل من حوله إلى مكتبه ويعزلهم عن ممارساتهم التي تشوه سمعة وزارته ويجلس هو مكانهم لمدة شهر يسمع من كل من لديه شكوى أو ظلم أو تهميش حتى يحقق عدالة ولو كانت متأخرة، فهي خير له من عدالة إلهية لا يعرف متى تتحقق، وما الثمن الذي تكلفه. وعليه أن لا ينسى أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وعلى الوزراء الآخرين أن لا ينتظروا وضع الكراسي في الصيانة حتى يخرجوا من الأبواب الأخرى غير تلك التي يدخلون منها، هذه مسؤولياتهم، وهذا هو قدرهم، فهم يتحملون كل صغيرة وكبيرة في وزاراتهم، وأن إعفافهم من حولهم تزلفا من المسؤولية لا يمكن أن يعفيهم الله منها.