من تسول له نفسه سرقة المال العام؟!

 

د. عبد الله باحجاج

تابعنا أمس الأول مقطعاً للشيخ الدكتور سيف بن سالم الهادي، صاحب البرنامج التلفزيوني الشهير "سؤال أهل الذكر" عن خطورة سرقة المال العام بنصوص قرآنية صريحة، ويبدو أنَّ هذا المقطع من إحدى حلقات برنامجه الإذاعي أو التلفزيوني، أو من ضمن لقاءته الحوارية، وفيه يدق ناقوس الخطر على الذين تسول لهم أنفسهم سرقة المال العام، ويموتون دون رد الأموال إلى خزينة الدولة، وفيه كذلك استهداف ردعي زاجر لمن قد تسول له نفسه سرقة المال العام، مهما كانت مظاهرها- أي السرقة وتجلياتها- وهي عديدة.

مقطع يضع كل مسؤول سواء كان حكوميا، أو عاما، أو خاصا، أمام ذاته، ومصيرها الحتمي، وفي الوقت ذاته، يتيح له إمكانية المساءلة والمحاسبة الذاتية الطوعية، قبل أن يجد هذه الطوعية قد سحبت منه، ويحاسب على سرقة أموال الملايين.

المقطع في توقيته الزمني، يُخاطب الروح في شهر الروحانيات، ويخاطب كذلك العقل بعد أن غلت في هذا الشهر مفاعيل شياطين الجن، لكن، يبدو أن شياطين الإنس لن تغل، وهنا الخوف من ألا تصل رسالة الهادي إلى وجدان كل مسؤول سولت نفسه السرقة أو أي شخصية وصلت للسلطة، وتسول لها نفسها السرقة، وهذا يجعلنا نتبنى رسالة الهادي في منبرنا الصحفي لتكامل وتعضيد الرسائل الموجهة، وما أحوجنا لمثلها في الشهر الكريم الذي يأتي في ظل إحساس الكل، فرادى وجماعات بالخطر الوجودي على الحياة الذي يكون مبعثه إما المرض أو السن أو العبرة بمن يرحلون أمام أعيننا كل يوم، أو القناعة بنسبية أو حتى عدمية السعادة الذي ينتجها المال الحلال، فكيف بالحرام؟  يقول الهادي في هذا المقطع "الإنسان عندما يُريد أن يتوب يذهب إلى ذلك الإنسان فقط، ويرد له ماله، لكن عندما يأخذ المال العام أو تسول له نفسه الأمارة بالسوء أن يأكل المال العام، فإنّه سيأكل أموال الملايين، سيصعب عليه بعد ذلك أن يعتذر إليهم، أو أن يطلب منهم العفو والعذر، واستشهد بقوله: لو أنَّ دولة تعداد سكانها عدة ملايين كمثال مبسط لتقريب فكرته، وقد أكل مالها العام، فإنه مطالب بأن يعتذر منهم جميعاً".

لكن الهادي يرى أنه لن يستطيع فعل ذلك، لذلك، ينصح الهادي كل سارق، أن يرد هذا المال إلى مصدره أي خزينة الدولة، وإن لم يفعل، فإنِّه يوم القيامة سيأتي ومعه المال الذي أخذه، ويستشهد بنص قراني صريح، يزلزل الكيانات التي سولت أو تسول بسرقة المال العام، وهو قول الله  تعالى،﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ السورة ورقم الآية: آل عمران (161) والغل أي يخون، والمثير هنا تفسيرها، وذلك عندما وصفها الهادي بأنها تصور مشهدا عجيبا ..فمن خلال تأملاته في بنية هذه الآية من حيث المُفردات ومضامينها، يقول إن الآية الكريمة لم تقل وما كان (لأحد) أن يغل،، وإنما قالت، وما كان (لنبي) أن يغل، أي حتى النبي (حاشاه) إذا غلَّ سيأتي بما غلَّ يوم القيامة، فكيف الحال ببقية البشر؟.

ومن ثم يخرج الهادي بنتيجة خطيرة، وهي أن المسألة ليست مسألة رئيس أو مسؤول أو شخصية كبيرة من الشخصيات المرموقة، وإنما المسألة، مسألة حق للملايين من المواطنين، فلا يجوز أن يخرج هذا الذي غلَّ سليما في الدنيا ولا في الآخرة، ويختم حديثه، بالدعوة إلى الانتباه إلى هذه القضية، فالمسألة خطيرة على حد قوله.

هي فعلاً خطيرة، بنص تلك الآية الصريحة، وكذلك بنصوص أحاديث صحيحة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، منها، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول"، وقوله صلى الله عليه وسلم كذلك: "إياك والذنوب التي لا تغفر: الغلول، فمن غلّ شيئاً أتى به يوم القيامة"، وكذلك قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "من أخذ شبرا من الأرض ظلماً، فإنِّه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين"، صحيح البخاري. وفي صحيح مسلم: أن عبد الله بن عباس لما كان يوم خبير، أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا فلان شهيد، فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا إنِّي رأيته في النَّار في بردة غلها أو عباءة،، رواه مسلم، نستدعي تلكم الأحاديث الشريفة لتدعيم حجية الدكتور الهادي، وإعلاء رسالته النبيلة، وكلنا نعلم أنَّ هناك خمس ضروريات أمَرَ الشرع بحِفْظها، وهى "الدِّين، والنفس، والعقْل، والنَّسْل، والمال"، وبالتالي، لن نستغرب التشديد على حرمة الأموال، واهتمام الإسلام بها وحماها حتى جعلها شقيق الروح ومساويا لها في الحرمة – كما يقول العلماء، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال كل المسلم على السلم حرام، دمه وماله وعرضه.

المال العام بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية شريفة هو حق الشعب، لا يحق للمسؤول التصرف به كيفما يشاء، كأنه ماله الخاص، ومن يفعل ذلك، فقد عرفنا ذنبه العظيم وجرمه الكبير، فهل سيتمكن السارق لهذه الأموال أن يبرئ نفسه من الملايين يوم القيامة؟ الفرصة متاحة الآن، فهل ستستغل قبل فوات الأوان؟ هذا جوهر رسالة الشيخ الدكتور سيف الهادي التي أطلقها في إحدى برامجه، وتعاطينا معها لتوسيع دائرة العلم بها، تحصناً من عدم الوقوع في محاذرها، وإنقاذا لأولئك الذين وقعوا فيها، لكي يستدركوا المسير قبل فوات الأوان، فلن تبرئهم الملايين من البشر يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، كما أنَّ تلك العقوبات الإسلامية تشكل رادعًا للسرقة، وضمانة للمال العام الذي تتوقف عليه التنمية الشاملة في كل الدول، وينبغي أن تدرس لكي تكون هذه الثقافة من مكونات عملية التأسيس والتأطير الذهني، والمال العام، قد يشمل الأموال المنقولة وغير المنقولة، وفي ثقافتنا المعاصرة، فكل من يحصل على مال عام – فلوس أو أراضٍ ..إلخ خارج نطاق القانون وعدالته الاجتماعية ومبدأ مساواته بين المواطنين – تعتبر استحقاقاً له، بل غنيمة خرج بها من علاقاته مع المسؤولين دون أن يدري أنه متواطئ مع سراق الأموال العامة، والله المستعان.