د. سيف بن ناصر المعمري
سيطرة عبارة "مُنتهية الصلاحية" على عناوين الصحف الخليجية وكذلك أحاديث النَّاس وتغريداتهم خلال الأسبوعين الماضيين، وهذه إحدى الحالات القليلة التي يوحد فيها مصطلح وقضية شعوب منطقة الخليج التي منذ هجرت سفن الغوص والتجارة التي كانت تقل جميع الأفراد من مُختلف مناطق المنطقة سعيًا وراء الخير الذي لم يجدوه في صحاريهم القاحلة لم يوحدهم شيء ولا حتى مجلس التَّعاون الذي وجدوا أنه لم يفِ بالوعود التي قطعها لهم "وانتهت صلاحياته" فور انطلاقته، لم تعد عبارة "منتهي الصلاحية" عبارة ذات دلالات غذائية كما يفهم البعض إنما لها دلالاتها العميقة السياسية والاقتصادية والثقافية التي لابد من تحليلها في هذه الفترة التي بدأت تصحى فيها شعوب المنطقة من سكرتها الطويلة التي امتدت لعقود طويلة، سكرة جعلتها لا تعرف ما الذي يدور حولها، بل ولا تسأل لأنَّ وتيرة تطور الحياة كانت أسرع من كل التساؤلات؛ والكل كان يعتقد أنَّه يعيش في فردوس يجب أن يحذر من تكرار خطأ أبيه آدم حين حذَّره الله من الاقتراب إلى ماهو ممنوع عنه وإلا سيخرج من فردوسه، ولذا يجد مواطنو دول الخليج مرة واحدة أنفسهم عبارة عن مجتمعات خير ما يُمكن أن توصف به هو عبارة "مجتمعات منتهية الصلاحية"، وهذا الوصف قد يجعل البعض يسخر والبعض الآخر يشمت، ولكن كل يعبر عن خبيئة نفسه، ولكنه سيدفع ما تبقى من العقلاء في المنطقة إلى التفكير جيدا في هذا الواقع الذي تكشف فصوله شيئاً فشيئاً عن جوانب خطيرة يجب أن نتوقف عندها من أجل بناء مجتمعات ذات صلاحيات غير مُنتهية تعمل من أجل مشروع غير منتهي الصلاحية.
لماذا نحن مجتمعات منتهية الصلاحية؟ هذا ليس سؤالي لوحدي الكل يسأل في المنطقة، لماذا كانت بطوننا خلال هذه السنوات مكانًا للأغذية منتهية الصلاحية، التي يأتي بعضها من الداخل وبعضها يأتي من الخارج والكل كان يتسابق إلى تسميمنا ببطء، دون أن يتحرك أحد لحمايتنا وهذا الحق في الحماية أهم من كل حُقوق المواطنة من تعليم وغيرها لأنّه ما فائدة التعليم حين يفقد الإنسان حياته أو يكون إنساناً عليلاً لا يشغله شيء إلا البحث عن العلاج والدواء عله يجد ما ينقذه مما أكله من لحوم ودجاج وأسماك وخضروات مُنتهية الصلاحية، تباع له في بلده التي تدقق بشدة على الهويات والكلمات ولكنها لا تدقق بنفس الاحترافية على المعلبات والحلويات، نجحنا في بناء ناطحات سحاب وجسور وسدود وحدود لا يُمكن أن يدخل عبرها الهواء بدون تأشيرة ولكن الأغذية المسمومة تتحرك بحرية مثيرة للاستغراب وبفضل ذلك أصبحنا بحق "مجتمعات منتهية الصلاحية".
لماذا نحن مجتمعات منتهية الصلاحية؛ وفي زمن عوائد النفط الكبيرة نجد أنفسنا في حالة ترقب كبيرة، يخرج علينا كل يوم أكثر من مسؤول حكومي، وواعظ ديني، ومثقف يعرف نفسه بأنهم حريص علينا، يطالبنا بتغيير أنماط حياتنا وأساليب استهلاكنا لأنَّ الظروف صعبة، والحكومات تعاني، والديون تتفاقم وكل ذلك بسببنا لأننا حملنا الحكومات فوق طاقتها في أوقات الرخاء، ومارسنا ضغوطات مطلقة الصلاحيات، وأخذنا علاوات ونثريات وهبات وسفرات للعلاج وأخرى للاستجمام، ولم يوقفنا أحد لكن اليوم انتهت تلك الصلاحيات، وانتهى زمن الرخاء.
نحن مجتمعات منتهية الصلاحيات؛ ولا يحق نقد أي مُمارسات ولا الكشف عن أية أخطاء، ولا نقد أي مسؤول سواء كانت الأغذية منتهية الصلاحية أو الأراضي الزراعية مملحة، لا يجوز ذلك للأفراد ولا لأعضاء المجالس البرلمانية، ولا يحق مطالبة وزير بالاستقالة، ولا عالم بالاعتزال، ولا رئيس تحرير جريدة أو مُدير قناة إذاعية أو تلفزيونية بالموضوعية والمصداقية في كلامه، ولا يحق التعبير عن حق أو الشكوى من قلق، أو الغيرة على وطن لأنَّ ذلك يتطلب صلاحيات لا تملكها إلا الحكومات، ويتطلب تعريفات وتوصيفات لا أحد يقدر أن يضعها إلا الحكومات، فإذا كان المواطنة تعني المُشاركة، والمشاركة تتطلب تحديد مناطق الخطأ والصواب، والمجتمعات لا تملك ذلك الحق فهي إذن مجتمعات منتهية الصلاحية.
نحن مجتمعات منتهية الصلاحية، لأننا نعلم عشرات الآلاف من أبنائنا، وننفق على تعليمهم بسخاء، ولا نيسر لأحد قدر تيسيرنا على من يُريد أن يفتح مدرسة أو كلية أو جامعة حتى باتت مؤسسات التعليم في مناطقنا أكثر من طلبتنا، وحتى أصبحت برامجنا أكثر من متطلبات أسواقنا، بل ولم نكتفِ بذلك بل أرسلنا الطلبة إلى كل بلاد العالم أفرادا وجماعات وأغدقنا عليهم بالبعثات والمخصصات، ولكن حين نحتاج إلى استشارة لا نلجأ إليهم، وحين تتطلب المؤسسات حيوية نتجاهلم، لأننا لا نثق فيهم ولا في قدراتهم، فكيف لا نكون مجتمعات منتهية الصلاحية إذا كنا سنضع شبابنا المتعلم على جنب ونلجأ إلى آخرين يقلون عنهم في المعرفة والمهارة في أكثر الأحيان.
نحن مجتمعات منتهية الصلاحية لا يوجد لها فعل أكثر من الاستهلاك سواء كنا أفرادا أم مؤسسات، وبضغط النزعة للاستهلاك والترفيه ضاعت كثير من قيمنا التي كانت تمنحنا شعورا إنسانيا رفيعا، وتجعل أخلاقنا أكثر سموا، وتحفز أجيالنا على تقدير التعلم والإنتاج بدلا من التفرغ للعبث بالتقنية وغيرها وتعزيز قيمة الإعاقة، ولذا لم نستغرب حين تقود أغنية الأطفال والشباب إلى كل هذا التعبير عن العبثية كما تفعل إحدى الأغاني، ولما ننصدم حين يمزق طلبتنا الكتيب أمام المدارس، ولما ننصدم حين يلجأون إلى الغش والتحايل؛ وما كنا نؤمن به من قيم انتهت صلاحيته وحلت محله قيم نفعية تتغير كل يوم عشرات المرات.
الكل اليوم يقول ليس لديّ صلاحيات للقيام بما يُحتمه علي دوري في المساهمة في إنقاذ مجتمعات منتهية الصلاحية من التحديات الكبيرة التي تواجهها، رب الأسرة وأمها يشتكون من محدودية الصلاحيات؛ المعلم والطبيب والمدير ورئيس الجامعة والوكيل والوزير وغيرهم يعلنون انتهاء صلاحياتهم، والحكومات وحدها من تقبض على كل الصلاحيات بل وتضيق أو توسع أو تسحب الصلاحيات أو حتى الجنسيات، ولذا دورها كبير جدًا في الحفاظ على حيوية هذه المجتمعات وحمايتها، ولا نريد أن تمر أسابيع كالأسبوعين الماضيين؛ كثرت فيهما الإشكاليات وقل فيهما التعبير عن الصلاحيات؛ كم هو صعب على الإنسان أن يكون فردا من مجتمعات منتهية الصلاحيات.