حميد بن مسلم السعيدي
المُجتمعات التي ترغب في إيجاد إنتاج اقتصادي مُتقدِّم يوفر لها موارد متنوعة، ومكانة اقتصادية بين الدول لجأت إلى منظومة التعليم للوصول إلى غاياتها، وتعتبر فلندا من الدول الناهضة والتي تمكنت خلال فترة وجيزة من تحقيق التنافسية الاقتصادية، وحجز مقعد لها بين الدول المُتقدمة، وهذا يعود إلى نجاح العمل التعليمي، وما يدلنا على ذلك هو تصدر فلندا لتصنيف التعليم على مستوى العالم.
لذا لا ريب أن تلجأ العديد من دول العالم للاستفادة من النجاح الذي حققته في مجال التعليم، والذي انعكس على الاقتصاد الوطني، مما أسهم في حدوث نقلة نوعية في كافة القطاعات الأخرى، لذا كانت مشاركتي في مؤتمر "دور المعلم في كفاءة التعليم" بمملكة البحرين، من خلال توجيهي سؤال للخبيرة الفلندية إيرميلي حول حديثها عن نظام التعليم في فلندا، ماذا فعلتم حتى أصبحت مهنة التعليم مهنة مُحببة لدى الجميع؟
كان حوارها صريحًا وواضحاً بأن اهتمامنا بالتعليم كان يتصدر القائمة على مستوى الدولة، فمنظومة التعليم تتكون من عناصر متنوعة يُمثل كل منها جزءا أساسيا يُساهم في تحقيق التعلم الفعال، ويتصدر المعلم قائمة هذه العناصر من خلال الدور الذي يلعبه في تحقيق رؤية المؤسسة التربوية، وإكساب الطلبة الأهداف والغايات الوطنية العليا، لذا فإنَّ كل العمل التربوي الذي يقوم على تخطيط والإعداد، وتأليف المناهج الدراسية، والأنظمة التقويمية، لا يُمكن أن تُحقق أهدافها ما لم يكن هناك مُعلم يعشق مهنة التعليم ويُكافح من أجل تعلم طلابه، والوصول إلى هذا المستوى من الرضا الوظيفي والقناعة الداخلية لدى المعلم هو ما تمكنا من تحقيقه.
ركزت إيرميلي في حديثها عن كيفية جعل مهنة المعلم مهنة عظيمة يُقدرها المجتمع، وتعتلي كافة المهن الأخرى أهمية، وجاء ذلك انطلاقًا من الاهتمام على المستوى الرسمي بالمعلم وإعطائه اهتماما خاصا يختلف عن الاهتمام بأيّ وظيفة أخرى، ويأتي هذه الاهتمام من خلال حصول المُعلم على العديد من المُميزات ومنها: المشاركة في تطوير التعليم، والاستماع إلى رأي المُعلم، وما يُقدمه من دعم ورغبة في تطوير التعليم، وحصوله على الحرية والتي تتمثل في حرية اختيار التخصص، وحرية اختيار المحتوى الدراسي للطلبة بما يتوافق مع المعايير والأهداف الوطنية، ووجود المؤسسة التي تحتض المعلمين وتعمل على مساندتهم وهي اتحاد المعلمين، والذي يهدف إلى تطوير ودعم النظام التعليمي، وإلى مساندة المعلمين في معالجة مشكلاتهم، فهو يشبه الملاذ الأوَّل للمعلم في مشاركة في التعليم، هذه الأطر التي عملت عليها فلندا أسهمت في تقبل مهنة التعليم لتصبح المهنة الأولى، حيث إنّ اختيار المعلمين للدراسة الجامعية يركز على الطلبة المتفوقين والذين يمتلكون الدافعية والرغبة في التطوير والحماس والتَّعاون، وتبلغ نسبة القبول لديهم 0.7% من طلبة الثانوية، ويشترط لقبول المعلم حصوله على شهادة الماجستير بحيث يمتلك مهارة البحث العلمي التي تساعده على معالجة المشكلات الطلابية، ضف إلى جانب دور المعلم في تطوير التعليم من خلال نقابة المعلمين والتي تمثل مؤسسة داعمة للمنظومة التعليمية من خلال تقديمها المقترحات التطويرية والمبادرات التعليمية والتي تسهم في معالجة مشكلات التعليم، كما يقوم التعلم على بناء جسور بين القاعدة والقمة، فهناك تواصل بين المُعلمين والقائمة على إدارة التعليم، تنطلق من منظور تطوير التعليم وتقدم المبادرات التطويرية التي تساعد على تحقيق الأهداف التعليمية، كما يتمتع المعلمون بالاستقلال الذاتي وحرية الاختيار في كافة المُستويات.
حيث يناط بالمعلم الدور الأساسي في تحقيق أهداف التعلم، فلا يُمكن إطلاقا تحقيق أهداف التعلم بدونه، فهو المحرك الأساسي والمؤثر الأكثر فاعلية في الطلبة، لذا أدركت معظم الشعوب والحضارات أهمية المعلم، وأولته العناية والرعاية والاهتمام، باختياره وفقاً للمعايير التي تتناسب مع أهدافها السامية، ورغبتها في خلق أجيال للمستقبل، لذا لا ريب أن يحظى المعلم بهذه الاهتمام العالمي، فوجد نفسه في مقدمة المهن مكانة بالمجتمع، وذلك لأن التعليم اليوم يحصل على المرتبة الأول من حيث الإنفاق، فتكلفة التعليم أصبحت عالية، وما ينفق اليوم من أموال يجب أن يسترجع في المُستقبل في عائد يتمثل في التطور الاقتصادي للبلد، لذا فعندما نقرأ نتائج الدراسات الدولية نجد أن الدول المتقدمة في التصنيف العالمي للتعليم هي دول متقدمة اقتصادياً، وهذا هو العائد الحقيقي من التعليم، والعكس من ذلك يمثل خسارة وطنية ليس فقط في حجم الإنفاق، وإنما في خسارة أجيال دون أن تجد الاستثمار الحقيقي لقدراتها.
Hm.alsaidi2@gmail.com