د. سيف بن ناصر المعمري
كان قطاع الثقافة ولا يزال القطاع الأقل تطورا في كثير من البلدان العربية؛ سواء تعلق الأمر بالبنية الثقافية التحتية من مكتبات وأندية، ومهرجانات ثقافية، أو بوجود مجلات وصحف تحفز الإنتاج المعرفي، أو إن تعلق الأمر بدعم المؤلفين والكتاب ومساعدتهم على نشر إنتاجاتهم الفكرية، أو إذا تعلق الأمر بوجود سياسة واضحة للتنمية الثقافية تشبه السياسات الموضوعة من قبل الدولة للقطاعات التعليمية أو الصحية أو الاقتصادية، وقد قادت عوامل تدخلت في إيجاد هذا الواقع الثقافي في السابق ربما لأنّ تحفيز الثقافة قد يعجل بإيجاد تحولات سياسية واجتماعية لا يرغب البعض فيها، وبالتالي تضافرت الخطابات السياسية والدينية على عرقلة نمو قطاع ثقافي يتلاءم مع الإرث المعرفي الكبير الذي نمتلكه سواء كان مادياً أو غير مادي، وبالتالي قاد ذلك إلى تقدم في قطاعات عمرانية في المدن المختلفة مع اختفاء أي واجهة ثقافية تعطي رمزية على إيلائنا أهمية للثقافة ودورها في مواجهة العالم بقوة ووثبات؛ لأنّ العالم المتحضر يعطي أهمية في عملية التنمية المستدامة إلى الثقافة، فالشعوب لكي ترقى لا يكفي أن نطعمها ضد الأمراض يجب أيضا أن نطعمها ضد الفكر المتخلف الذي يعيق التنمية بكل أبعادها، ولذا آن الأوان اليوم لنعيد النظر في البنية الثقافية التي نمتلكها، وفي الموارد البشرية التي تتولى شؤونها، وأن نحدد موقفنا من الثقافة هل سنجعلها قطاعا خلف كل القطاعات في ظل كل التحديات التي يواجهها المجتمع العماني وغيره من المجتمعات، والتي تتطلب بناء موقف معرفي قوي لمواجهتها، فالذي ينظر لما يجري من صراعات فكرية عبر مختلف الوسائط التكنولوجية يدرك أن إنسانا يواجهها وهو مجرد من السلاح في وقت تواجهها مجتمعات أخرى وهي مدججة بالأسلحة المعرفية التي تتيح لها التفنيد والاصطفاف من أجل الدفاع عن قيم الحداثة والتطور والمضي في البناء.
إنّ الثقافة العمانية الضاربة في جذور التاريخ، والتي انتجتها الأمة العمانية بمختلف عناصرها السكانية، وفي مختلف الأماكن الجغرافية التي تواجد فيها العمانيون، لا تزال متناثرة في كل مكان، أكبر من أن نحيط بها، وإن لم نلتفت إليها نتيجة إيماننا بقيمتها الحضارية، فعلينا أن نلتفت إليها للقيمة الاقتصادية الاستثمارية التي تمثلها، ولذا يبدو أن الأزمة الاقتصادية ربما حركت بعض من المواقف لاستثمار الثقافة وتحويلها إلى قطاع إنتاجي يرفد خزينة الدولة في هذه الفترة العصيبة، وهذا ليس خطأ فالثقافة في كل العالم اليوم أصبحت قطاعا اقتصاديا له دور كبير في جذب المهتمين بالتراث، والموسيقى والمسرح، والمكتبات والمخطوطات والمتاحف، والغذاء، ويزيد من فرص نجاح الاستثمار الثقافي غنى البيئة الثقافية وتنوع مظاهرها في مختلف الأماكن، وكذلك وجود مناخ من الاستقرار والانسجام الاجتماعي، علاوة على عدم تزمت السكان وانفتاحهم وتفاعلهم مع مختلف الثقافات القادمة، وبالتالي كما أنّ هذه الأزمة قادت إلى تقليل العقبات التي وضعت أمام المشاريع السياحية حيث يعلن كل يوم عن توقيع اتفاقيات كبرى لإنشاء منتجعات سياحية لابد من المضي في تطوير البنية الثقافية واستثمارها بطريقة عصرية تحافظ عليها وتقدمها بطريقة متطورة للعالم، تجعلها قادرة على تحقيق عوائد مالية متنامية.
لقد أدركت دول العالم ومدنه أهمية الاستثمار الثقافي، ومواجهة دول العالم بكنوزها الثقافية، التي تعبر عن قوتها الحضارية بدلا من أن تواجه فقط بمولاتها التجارية الضخمة، أو بفنادقها الفارهة، فعلي سبيل المثال هذه مدينة أمستردام الهولندية والتي وهبها الله الأنهار التي تخترق مبانيها، ووهبها الزهور الأكثر جمالا في العالم، إلا أنها لم تكتف بذلك بل ذهبت إلى استثمار ثقافتها وتعريف العالم بها، حيث يقام في المدينة أكثر من 300 مهرجان متنوع في السنة، فهناك مهرجانات للطعام وكرنفالات ثقافية مهرجانات للرقص والفلكلور، وفي مدينة مثل فيينا عاصمة النمسا تعد الثقافة أحد أهم الأسباب في اختيارها من أفضل مدن العالم من أصل 440 مدينة حول العالم حيث تتاح لسكانها الذين لا يزد عددهم عن مليون وسبعمائة ألف العديد من المتاحف والمسارح والمهرجانات الموسمية علاوة على المكتبات التي تجعلها توفر جودة حياة لسكانها لا تتاح لغيرها من المدن، فهل يمكن أن نجعل من مدننا الرئيسية حواضن لتحولات ثقافية ونحن نعيد النظر في كل شيء في الماضي والحاضر والمستقبل؟
إنّ أول واجهة يجب أن نقابل بها العالم في دولة كعمان هي الثقافة، نحن شعب طوّر ثقافة خصبة عبر العديد من القرون، وبتفاعل مع العديد من الشعوب، وبالتالي لا يجب أن نسمح بتواري هذه الثقافة وعناصرها الأصيلة خلف مظاهر التحديث التي قضت على كل ما هو قديم من أجل إبراز الوجه الحديث، ولذا فإن الاتجاه للاستثمار الثقافي توجها وإن جاء متأخرا فهو توجه سيحقق العديد من النتائج في تعزيز الهوية العمانية، شريطة أن يتم وفق إطار للتنمية الثقافية يتم إعداده يستحضر كيف نستثمر ما نملك من تراث ثقافي؟ وكيف نوجد ما ينقصنا لتحقيق التنمية الثقافية في المدن العمانية، وكيف نعيد فتح تخصصات تعليمية لها علاقة بالثقافة وتنميتها مثل السينما والمسرح والآثار حيث يتم تأهيل كوادر وطنية قادرة على مواكبة هذه التحولات، وأيضا لابد من الاهتمام في هذه الإطار بالجانب التشريعي خاصة في ظل تنامي الطلب لتسليم المواقع الأثرية والثقافية إلى شركات القطاع الخاص لإدارتها، فما الذي يضمن لنا كمجتمع أن تكون تلك الإدارة سلميّة وتحافظ على تطوير هذه الأماكن بدلا من الاستفادة منها بدون إحداث أي تطوير، كما يتطلب هذا الإطار لتنمية الثقافة تخفيف القيود على إنشاء الجمعيات الثقافية والصالونات الأدبية والصحف والمجلات والمسارح، والمكتبات والمتاحف الشخصية، وإقامة المهرجانات، فلا معنى لكل هذه القوانين في ظل التقدم التكنولوجي الذي يتيح للناس فرص الاطلاع على المنتجات الثقافية المختلفة، بذلك سنزيد التربة الثقافية خصوبة، وبذلك سنوجد لدى شبابنا فرصا لبناء مواقف معرفية لمواجهة المخدرات التي تهددهم، والدعوات الاستهلاكية التي تسيطر عليهم، وسنمنحهم أكثر من حياة في وقت يجاهدون فيه من أجل الحصول على حياة واحدة.
إنّ بناء إطار للتنمية الثقافية يتطلب حوارا بين مختلف المؤسسات الرسمية والمدنية الفاعلة في الشأن الثقافي، حوارا سيقود إلى تقريب وجهات النظر، ويساعد على الالتقاء حول أهداف مشتركة، فكل شيء يمكن الاستفراد بالتخطيط له إلا الثقافة التي هي شأن جماعي لابد أن يساهم الجميع في التخطيط لها، ويمكن أن يوسع التلفزيون والقنوات الإذاعية من الحوار حول هذا الإطار، وكذلك الصحف المحلية عبر التحقيقات واستشراف مختلف الآراء التي تحملها الأطراف المعنية.