أَليس مِنكم رَجلٌ رشيد؟!

عبد الله العجمي

ألا تلاحظون معي أنَّ العدد الهائل من القنوات التلفزيونية الناطقة باللغة العربية يدعو إلى الحيرة والتساؤل، بل والتَّفكر في هذا الشأن.. وهل يذكر جيل الطيبين أنَّه في منتصف الثمانينات من القرن الماضي كان عدد القنوات التلفزيونية العربية لا يتعدى الثلاثين قناة؟.. بينما تُشير آخر الإحصائيات والتقارير إلى أنَّ عددها حالياً يفوق الـ 1400 قناة تلفزيونية ناطقة باللغة العربية!! إنه عدد مُخيف حقاً!.. مع علمنا جميعاً بأنَّه لم يحدث أي انفجار انشطاري فرّخ كل هذه القنوات.. أو عايشنا غزواً فضائياً فرض علينا هذا الأمر.

ولا يحتاج أيُّ متابع لتطور الخطاب الإعلامي العربي خلال العشرين سنة الماضية أقل القليل من النباهة ليُلاحظ كيف تحول هذا الخطاب في غالبه من أداة لبناء الأوطان وإثراء الفكر وتطويره إلى معول هدم وتخريب وذلك بمحاولة خلق المشاكل وتهييج المشاعر بين طوائف كانت مُتعايشة من خلال إثارة النعرات الطائفية ساعده في ذلك الاضطراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كثيرٍ من دول العالم العربي والإسلامي.. حيث غطّى العديد من الانتهازيين جزءًا كبيرًا من مساحة الحُرية الإعلامية التي اتَّسعت رقعتها في العالمين العربي والإسلامي خلال العقدين الماضيين لنفث بعض من سمومهم والعمل على تكريس أحادية الرأي وإقصاء الآخر.. ملوّحين بأوراق وقضايا غاية في الحساسية والتَّعقيد.

وقد تفطَّن العديد من المُراقبين لهذا الأمر فبادر بالتحذير من أهداف وعواقب هذا الإعلام الهدّام على الأمتين العربية والإسلامية.. مُشيرين إلى الدور السلبي والخطير لها في محاولة تأجيج الصراعات بين أصحاب الأديان والمذاهب بل وبين أبناء الوطن الواحد أحياناً.. داعين إلى أهمية تعرية هذه القنوات التحريضية الخطيرة التي من أهم أهدافها زعزعة استقرار المُجتمعات ومحاولة بث روح الكراهية من خلال تلوين برامجها وصبغها بصبغة التديّن بدس السم في العسل بمحاولتها إشاعة النَّسق الثقافي السائد في الغرب ومحاولة تمييع الشعوب العربية وطمس هويتها وإغراقها لا شعورياً في وحول الطائفية.. بنبشها لقضايا دينية ومذهبية حساسة لترتفع الوتيرة شيئا فشيئا لحين تخطّيهم لكل الخطوط الحمر والنيل من معتقدات الطرف الآخر والطعن في مقدساته.. من منطلق أنَّ أهم سبيل لإخضاع أي أمة هو التشكيك في عقائدها وهدم ثوابتها.

إنِّه لمن الأهمية والضرورة التصدي لهذا النوع من الخطاب الإعلامي قبل أن يبلغ الحال مدىً لا يمكننا السيطرة عليه.. وقبل أن تستطيع هذه القنوات تحويل الساحة العربية لساحة مجادلات ومشاحنات طائفية ودينية، ومحاولة إشغال الشعوب عن قضايا أهم تتطلب تضامنًا وتكاتفًا لمُواجهتها.. وألا يقتصر الأمر على المؤسسات الرسمية في تحذيرها من هكذا أخطار بل من المُهم تجييش كل القوى الفاعلة دينياً والمؤثرة فكرياً في عالمينا العربي والإسلامي لتكثيف الجهود لمُحاولة تجفيف منابع هذا الخطاب الإعلامي الخطير.

إنَّ الخطاب الطائفي الذي يُبث من هكذا قنوات بعيدة كل البعد عن سماحة الإسلام، قائم على مبدأ اعتقاديّ قبل أن يكون استدلالياً.. أي أنه جهل فوق جهل، كأن يتبنّى الفرد فكرة مُتطرفة ومُتشددة؛ ثم بعد ذلك يحاول البحث عن استدلال شرعي لها، محاولاً الانتصار لذات الفكرة ولو بطُرق ملتوية، فالغاية عندهم تُبرر الوسيلة، ولا يتورعون عن التَّجنّي على نصوص ثابتة بمحاولة ليّ أعناقها محرّفين الكلم عن مواضعه لتحقيق أغراضهم الخبيثة..

لعلّ من أهم الأسباب التي ساعدت هذه القنوات الطائفية في انتشارها وتماديها بخطابها التحريضي هو انحسار الخطاب الديني المُعتدل رغم أننا في أمس الحاجة إليه فكم يبدو لنا هذا العالم مُخيفاً بدونه.. وبنظري القاصر أن الكرة الآن في ملعب الساسة.. وأن انعقاد مؤتمر القمة العربية الثامنة والعشرين في المملكة الأردنية الهاشمية فرصة سانحة لهذه القمة أن تتبنى قراراً يوقع عليه جميع الدول الأعضاء بضرورة التكاتف لإغلاق هكذا قنوات.. ألم يحِنِ الوقت لكم أيها الساسة بأن تضعوا آيديولوجياتكم جانباً؟! ألم يحِنِ الوقت لتأخذوا من التاريخ المُعاصر دروساً للمستقبل؟! أليسَ منكم رجلٌ رشيد؟!.