علي بن مسعود المعشني
المذاهب الإسلامية كما فهمنا وأفهمنا هي عبارة عن اجتهادات فقهية ومدارس فكرية لمسائل فرعية في الإسلام، وهي اختلافات تعبر عن ثراء فكري وتدافع عقول أحياء، وصفت بأنَّها من رحمة الإسلام وسعته.
رغم أنَّ كافة المُسلمين من علماء وعامة يرددون ذات التوصيف أعلاه إلا أننا فشلنا فشلًا ذريعًا في تسكينه وتطبيقه على أرض الواقع، فمازال توصيفنا أعلاه مجرد شعار نتستر به لنخفي شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا والتي تنطق بجلاء في حياتنا بأننا مذهبيون إلى النخاع، منا من قضى نحبه ومنا من ينتظر ولكن واقع الأمر لم يتبدل أو يتغير لقرون خلت.
حقيقة الإسلام اليوم لم يعد الإسلام المحمدي ولا النهج النبوي في المذهبية رغم أنَّ جميعنا يعلم بأنَّ النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام وآله لم يكن له مذهب سوى أصول الإسلام وأركانه وكذا كان حال من تبعه من خلفاء ومن رافقه من صحابة وأن المذاهب تشكلت في القرن الثاني للهجرة. فالإسلام اليوم هو "إسلامات" مشائخ ووعاظ ومرجعيات وأتباع، إن أفرطوا أفرطنا وإن فرطوا فرطنا وإن غووا غوينا وإن رشدوا رشدنا.
حين نقتتل على المذهبية فنحن نلغي الإسلام من حياتنا، وحين ننتصر للمذهبية فنحن نلغي رسالة محمد (ص) وهديه ونهجه والتَّأسي به.
رغم كل ما تقدَّم من حقائق دامغة فإننا فشلنا في تحويلها إلى عقائد راسخة لننتصر للإسلام وحده برحابته وسماحته وعمق مقاصده وبُعد رسالته ونتجاوز المذهبية بضيقها وعصبيتها أو على الأقل تسكين المذهب في سياقه وحجمه ومعناه وأهدافه.
بلغة العقل والهداية والرشاد نتساءل، ما الذي وجدناه في المذهب وأهمله الإسلام؟ وما الذي سيُنجينا من العذاب ويدخلنا الجنة حين نتمسك بالمذهب ونتجاهل الإسلام؟ وهل سنجد العزة والقوة في رحاب الإسلام أم في ضيق المذهب؟.
جملة من الأسئلة تبتدئ ولا تنتهي في عقل كل ذي فطرة سليمة وفكر حُر وجوال رغم ندرتهم في زماننا المذهبي.
في سلطنتنا الحبيبة نُعاني من أعراض المذهبية رغم تحدثنا عن التَّسامح والسُّمو والتآخي، ففي النهاية نحن لسنا سوى مُسلمين أوفياء لزمن مذهبي وطائفي رديء، وإن تحدثنا بغير ذلك، ففي جميع الأحوال لم تُختبر قناعتنا في هذا الأمر لكي نتيقن من حقيقة صلابتها في وجداننا ومدى حضورها في عقلنا الباطن والظاهر. رغم أنَّ السياسات العامة والشرائع للحكم في السلطنة تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أسس المواطنة الحقة المجردة من كل اعتبارات أخرى وهذا موروث تاريخي تدلل عليه عشرات المواقف في تاريخ عٌمان القديم والحديث.
مايهمنا في هذه العجالة هو تبيين مغزى أن تكون مذهبيًا وأثر ذلك على العقل الجمعي العٌماني وارتداداته على الصعُد الفكرية والسلوكية المختلفة، على اعتبار يقيننا بأنَّ عُماننا الحبيبة محروسة بعين الرعاية الربانية وبدعاء سيد الخلق لها.
فالمذهبية في حقيقتها وعُمق فلسفتها تتعاظم ككرة الثلج فهي الاقصاء والإلغاء وضيق الصدر والأفق والوحدة والانكماش والريبة والنرجسية وبالنتيجة التآكل الذاتي حتى الاضمحلال والتلاشي، أي أنَّها ضد ونقيض للرسالة الأصل في كل شيء وصولًا إلى المظاهر فالأعراض فالنتائج.
كل عدو لما يجهل متعصب لما يعرف. وبين الجهل والتعصب يتحرَّك الفكر الإلغائي. فالجاهل لعدم إطلاعه ألغى فخسر، والمُتعصب لتشبثه بما يعرف لم يعد قادرًا على الإطلاع فخسر المعرفة أيضًا.
من يتبنى المذهبية كفكر وقناعة سيتبنى بكل رحابة عقل وصدر المناطقية والعصبية القبلية والتَّعالي والنرجسية والمحاصصة والأنا الكبرى، وسيروج وبكل قوة لما يخدم قناعاته تلك ويُبرر منطقه الأعوج المبتور بوقائع وخرافات وأساطير لا وجود لها إلا في ذهنه، وسيتقبل في المقابل كل دعوة باطلة عابرة للحدود تخدم قناعته تلك وتُعزز منها بوعي وبلا وعي.
تيقن بأنَّك حين تقرر أن تكون مذهبيًا فأنت مشروع ناجح وحاضن مثالي للفتنة بفعلك أو بكلامك أو بمباركتها بصمتك الشيطاني، وأنك شخص إقصائي تأخذك العزة بالإثم، وأنك ستنتصر للعادات على حساب العبادات، وستتبع عالم الدين وليس الدين، وستؤمن بكلام الشيخ وليس النبي (ص)، وسترجح الحديث على النص القرآني طالما يدعم هواك ويُعزز قناعتك، وستبرر القتل وسفك الدماء والشرور جميعها وكل ما حرَّمه الله طالما من يرتكبها هم من مذهبك، وستهدم ولن تبني، وستنغلق على الماضي وتقدس الموروث وتقتات عليه وتهجر المستقبل وتفسد الحاضر، وستكون فاجرًا في خصومتك ونظرتك للمخالف لك، ولن تبالي بمصير الوطن ولا بمصائر شركائك فيه، وسترى ما يملكه الآخرون لا ما تملكه أنت، وستنشغل بمصائر الآخرين وتنسى نفسك، وستعتبر نفسك وكيلًا لله في الأرض ولن تهتز لك شعرة لمصائر إخوتك في التراب والمصير، وسترفع الشعار الجاهلي "أنا من غزية وإن غوت" وتمتثل له. وحين تُقرر أن تكون مسلمًا فتيقن بأنّك ستكون عكس كل ما ذكر آنفًا جملة وتفصيلا.
فمن أسقطوا الدولة في ليبيا ومن هللوا لهم في الداخل ومن الخارج هم مذهبيون وليسوا مسلمين، ومن يدين أفعال الدواعش ولا يدين فكرهم هو مذهبي وليس مسلماً، ومن يصف الدواعش بالفرقة الضالة صباحًا ويدعو لهم "كمجاهدين" في جوف الليل فهو مذهبي وليس مسلما، ومن يُهلل للقتل المجاني ويُبرره في سوريا والعراق فهو مذهبي وليس مسلماً ومن يُبرر ويهلل لتدمير اليمن وقتل شعبه وحصاره فهو مذهبي وليس مسلماً، وهذه النماذج قابلة للتناسل والتمدد والاتساع لأمكنة وأزمنة أخرى طالما الحاضن الفكري موجود والقناعات حاضرة والعقائد مغيبة.
لو تخيلنا – لا سمح الله – أننا عشنا زمناً في سلطنتنا الحبيبة تفشت فيه المذهبية وأتَّسعت رقعتها وعلا كعبها على كل ضمير وعقل، واضطررنا إلى إصدار قرار وطني وبداعي الحفاظ على اللحمة الوطنية وتحقيقًاً للمصالح العليا للوطن، بأنَّ كل محافظة في السلطنة يتمتع أبناؤها بثرواتها ووظائفها وعوائدها المالية حصرًا، ورفعنا شعار كل منطقة أولى بخيراتها (بغض النظر عن حجم هذه الخيرات وتنوعها من عدمه) بدلا من خيرات عٌمان لكل العٌمانيين، فما هو واقع الحال في تقديركم لعُمان والعُمانيين ؟ لكم التَّفكر والإجابة.
المُراد من المثال ليس الترويج لشق اللحمة الوطنية بل الإذعان لقسرية تداعيات المذهبية وحصيلتها التراكمية والتي تتعدى المذهب لتصبح نمط تفكير ونهج حياة بالتَّداعي والنتائج الحتمية لطبيعة الأشياء والتي قد تبدو لنا ظاهريًا بشكل ما وتنتهي على صور وأشكال خارجة عن السيطرة والمخطط والمألوف.
وفي الختام، علينا أن نُدرك أن سلطنتنا الحبيبة ليست كبقية البلاد في أشياء كثيرة، فعُمان لا يقطنها من يشاء بل من تشاء، وعُمان تحتضن من يشبهها فقط، فهذه الأرض الطيبة التي تغتسل الشمس كل صباح في مياهها قبل أن تجود بنشر ضيائها المنير على أرجاء الوطن تأبى إلا أن تبقى قبساً يهتدي به التائهون والوجلون عبر التاريخ، ويأبى الله إلا أن يحفها بعنايته ورعايته لأنَّ عُمان رسالة إلهية عصية على التزوير أو الإندثار وإلهام حب لا ينتهي للكمال والعطاء، فمن أحبَّ عُمان أحبَّ الله وأحب الحياة وأحب البشر. لهذا ستبقى عُمان ما بقيت الشمس فلاغنى للشمس عن عُمان ولاغنى للبشرية عن كلاهما.
حفظ الله عُماننا وسلطاننا بما حفظ به ذكره المُنزَّل العظيم من كل شرٍ ومكروه.
قبل اللقاء: الحمد لله أنَّ المذاهب الإسلامية اختلفت في الفروع واتفقت على الأصول ليبقى ذلك شاهدًا لنا وشاهدًا علينا.
وبالشكر تدوم النعم