الموضوعية السيكولوجية والرواية

محمد علي العوض

طالما أن الرواية تكشف وتضيء العالم الروحي الداخلي للإنسان فإنّها حتماً وثيقة الصلة بالسايكولوجيّة الإنسانية، وعدّ البعض أنّ العلاقة بين الأدب وعلم النفس قديمة قِدم ظاهرة الكتابة نفسها لاسيّما الأدبية فالحكايات الملحميّة للأبطال الخارقين عند اليونان وغيرهم والإلياذة والأوديسة كانت غنيّة بالإشارة إلى تكوينات النفس البشرية والتأويلات النفسيّة.

ولأنّ الكتابة "سلوك" فهذه مدعاة منطقية لإخضاعها لأحوال التحليل والتفكيك والمقاربة، فالقاعدة تقول إنّ لكل أثر أدبي سبب سيكولوجي، يحتوي وفق مفاهيم التحليل النفسي مضمونا ظاهرا ومضمونا مستترا، والحالة النفسيّة للمؤلف، بجانب دوافع الكتابة التي لا يعيها أغلب الكتاب.

لذا عمد كثير من الروائيين إلى استثمار علم النفس والسيكولوجية الاجتماعيّة لفهم خصائص الشخصيّة الروائية بمختلف أنماطها ودوافعها الشعورية وإسقاطها على العمل الأدبي؛ لأنّ معرفة القوانين العميقة للحياة النفسيّة تمنح الروائي فهماً صائباً ودقيقاً لدوافع الشخصيّات وتصرّفاتها ونشاطها؛ علما بأنّه لا يضع نظريات علم النفس أمامه ومن ثمّ يرسم على ضوئها شخصياته؛ بل على العكس تماماً، إذ يأخذ الروائي سمات وأنماط شخصيّاته من الواقع الحي المعقد، بينما يتناول النفسانيون الأعمال الأدبيّة من زاوية التحليل النفسي وليس الأدبي.

ويعتبر بناء الشخصية أحد المكونات الأساسية في القصة ويجسد شكل العلاقة بين الأدب وعلم النفس. فبناء الشخصية يعني علم الشخصيّة والتعرف على حالاتها لا يتم إلا من خلال علم النفس.

اشتط السرياليون في جانب "العامل النفسي"، وعدوه مصدر الصدق الوحيد وما عداه حواجز في وجه هذا الصدق الذي ينشدونه، حيث يقول والاس فاولي: (لا تكفي المظاهر الشعورية للإنسان كي تفسر حقيقته، أو ماهيته، سواء لنفسه أو لغيره، إذ أنّ اللاشعور لديه يشتمل على الجزء الأعظم من كينونته).

في الوقت الذي اعتبر فيه "فرويد" التحليل النفسي وسيلة علاجيّة ومرجعاً ذهنيّاً قوي الفاعليّة اعتبره "سارتر" مجرد شكل موضوعي بحت قابل للرفض والقبول. وحاول ترسيخ منهج جديد للتحليل النفسي يستبعد فيه مبدأ "اللاشعور" وقدم ما يسمى بـ"التحليل النفسي الوجودي" فالإنسان عند "سارتر" وحدة متكاملة ومتجانسة، لا مجموعة من المشاعر المتناثرة، وعلى هذا الأساس يعد المرء متكاملاً في تصرفاته كلها مهما كانت بسيطة أو تافهة، وعليه أن يدرك إلى جانب هذه التصرفات ميوله وأهواءه في كشف واضح.

وأعاب على فرويد أنه تحدث عن "اللاشعور" بلغة ذات معاني أسطوريّة، وعدّ ذلك نوعًا من مهمات "خداع النفس" أو "ضعف الثقة بالنفس" حين عرّف فرويد الأدب بأنه "لا شيء غير الأماني غير المتحققة، والمخاوف المؤجلة" أي أنّه محاولة لخروج أشياء حبيسة في "اللاشعور" البشري. واتفقت "سيمون دي بوفوار" مع موقف سارتر من تحليل فرويد، مبينة مآخذها على المصطلحات والإيحاءات والرموز الفرويدويّة التي تتناول الجنس، وأبانت أنّ التحليل النفسي لا يمكن استخدامه إلا في الحالات المرضيّة فقط، أمّا بالنسبة للأشخاص الطبيعيين فلا يصح تطبيق هذه المناهج والنظريّات عليهم لأنّها لا تلائمهم قط.

وبرغم ذلك نجد أنّ "النقد الأدبي" استعار من "التحليل النفسي" الخطوط العامة لعمل "اللاشعور" بجانب عمل "الأحلام"؛ حيث ترى "أناييس نن" في كتابها "رواية المستقبل" أنّ (الروائي اليوم يسير على خط موازٍ للعالم النفسي، حيث يتبيّن ثنائيّة الشخصيّة الإنسانيّة وتعدديتها) كما ترى أنّ كل أعمال كافكا أُخذت من حقل حلم اليقظة. وقد حوّل كافكا أحلام اليقظة إلى روايات كابوسيّة..

ولا ننسى أنّ الأدب استمد مصطلح "تيار الوعي" من علم النفس بعد أن أطلقه عالم النفس الأمريكي "وليم جيمس" عندما قال إنّ الذكريات والأفكار والمشاعر توجد خارج الوعي الظاهر على هيئة فيضان.