نفحاتك يا نقشبندي

 

د. محمد العريمي

كنت قد اتّخذتُ مكاني على ناصية البهو الخارجي للقهوة الأحمديّة التي سميت بذلك تيمّناً بالمسجد الأحمدي والتي استمدت من جواره شهرتها وعراقتها وصيتها. يأتيني أحد (صبيان) المقهى كي يرى ماذا يشرب (الباشا)، وهي الكلمة التي تلاحقني في كل مقهى أدخله، فأطلب سحلباً بالمكسّرات وكأس ماء مثلّج، لأتفرّغ لمتابعة تأمّلاتي لمن حولي ومطالعة الصحف التي شدّتني عناوين بعضها. كان العنوان الرئيس لأغلب (المانشيتات) الصحفيّة وقتها هو إضراب 6 أبريل الذي حدث قبل بضعة أيّام والذي كانت قد دعت إليه فئة من المدوّنين الشباب سيكون لهم شأن في الحياة السياسيّة المصرية، وذلك تضامناً مع إضراب دعا إليه عمّال شركة المحلّة للغزل والنسيج إحدى قلاع الصناعة المصرية المتبقيّة، واعتراضاً على الغلاء والفساد، والذي تحوّل فيما بعد إلى إضراب عام وشابته أحداث شغب كبيرة.

وسيتحوّل هذا التاريخ من مجرّد رقم إلى اسم لحركة سياسيّة سيبرز دورها بشكل كبير خلال فترة ما قبل أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير وما بعدها، وستنقسم فيما بعد إلى جبهتين كعادة أصيلة ارتبطت بالأحزاب والحركات والجمعيّات السياسيّة المصريّة! وسيتحوّل بعض رموزها من أبطال إلى خونة، ومن ضيوف دائمين في كل برامج (التوك شو) إلى نزلاء سجون بحسب الهوى والمزاج السياسي القائم! الطريف أنّ شعار الإضراب الذي تبنّته الحركة وقتها حمل عنوان أغنية شهيرة للرائعة نهاد حدّاد أو فيروز كما يعرفها سكان كوكب الأرض والكواكب المجاورة، وكان الشعار "خليك بالبيت"! والغريب أنّ بعض حركات وأحزاب المعارضة حاولت تنظيم إضراب يوم الرابع من مايو من نفس العام وهو اليوم الذي يصادف عيد ميلاد الرئيس مبارك، ولكنه فشل. هكذا هي الشخصية المصريّة، تفعل كل شيء بمزاجها لا بمزاج الآخرين، وفي الوقت الذي تحب وتشاء لا كما يحب الآخرون!

أقلّب الصحف بادئاً بالصفحة الأخيرة كعادتي عند قراءتها. أطالع في (اليوم السابع) تصريحاً للسيد صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى يقول فيه إن الأحداث التي شهدتها مدينة المحلة الكبرى جاءت تحريضاً منظماً ومخططاً من جانب فئة غير واعية وغير مسئولة وفاقدة للحس الوطني! في خبر آخر أبو العز الحريري نائب رئيس حزب التجمع السابق يدين موقف قيادة الحزب من الإضراب. خبر ثالث في (الشروق) يتحدث عن مقاطعة جماعة الإخوان لانتخابات المحلّيّات بعد أن سمح لها بالتنافس على 20 مقعدا فقط من بين 52000!

وسط زخم السياسة أطالع أخباراً طريفة مثل (الناس في إضراب أم "هربانة" من التراب؟!) وذلك تعليقاً على العاصفة الرمليّة التي ضربت العاصمة يوم الدعوة للإضراب. و(جزارو الحمير يعتدون على الصحفيين)! يذكرني الخبر الأخير بحكايات بيع لحوم الحمير وترويجها كلحوم مفرومة في المطاعم، التي انتشرت في تلك الفترة والتي امتنعت بعدها نهائياً عن شراء اللحم أيّاً كان مصدره كما امتنعت قبلها مجبراً عن شراء (الفراخ) بعد ظهور انفلونزا الخنازير!

أترك الصحف جانباً كي أعطيها لاحقاً إلى أحد العاملين بالمحل كما أفعل في كل المقاهي لأبدأ الجزء الثاني من السهرة وهو ممارسة التأمل الذي يقطعه صوت يأتي من الداخل متسللاً كما يتسلّل الحبّ إلى قلب مراهقة خجول. صوت لا يمكن وصفه أو تصنيفه أو تحليل طبقاته وسلالمه، إنّه صوت (أسمهان) يلعلع: فرّق ما بينّا ليه الزمان.. ده العمر كلّه بعدك هوان. ما الذي أتى بأسمهان هنا! كنت أعتقد أن (السماع) في هذه القهوة مقتصر على التواشيح والأذكار والقراءات بحكم الجيرة والجوّ المحيط فما الذي أتى بالطرب هنا. نسيت أننا في مصر، حيث لا يمكن للمقهى أن يكون بلدياً شعبياً صميماً دون تكايا خشبيّة، ونصبة، ومعلّم بشنبٍ ولغد، وحجر معسّل، وعشرة بلدي، وروحٌ جميلة، وطرب أصيل! 

تعيدني أسمهان إلى الأيام الخوالي، حيث كنت (خُلْوٌ مِنَ الْهَمِّ إلا هَمَّ خَافِقَةً.. بَيْنَ الْجَوَانِحِ أَعْنِيهَا وَتَعْنِينِي) على رأي شيخنا الجواهريّ العظيم. إلى ذكريات السنة الأولى لي في الجامعة، ومغامرات الفتى الأسمر النحيل مع روايات إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، والتي تبعها بالقطع اقتناء أغاني حليم ونجاة وفايزة، وأحلام اليقظة التي لم تكن تختلف قصصها عمّا ورد في تلك الروايات. كانت هذه الأغنية ضمن مجموعة أول وآخر (كاسيت) أشتريه لأسمهان في حياتي قبل أن تنتشر أغانيها وأغاني غيرها على مواقع النت كانتشار الوباء في قرية أفريقيّة، وكان يحوي كذلك أغنية تفيض من الشجن كما يفيض سد وادي ضيقه بمائه بعد كل منخفض. كان اسم الأغنية "ليت للبرّاق عيناً"، وكانت أسمهان تؤديها بطريقة تجعلك ترى ليلى العفيفة وهي متكوّمة في سرداب قلعة فارسيّة مكبّلة بالسلاسل والقيود، ووهج حرارة الصحراء يلفحك بينما ابن عمّها البرّاق هائماً على فرسه يبحث عن أثر يدلّه على مكانها. ذكرتني كذلك بحواراتي اليوميّة وقتها مع (سالم) قرب مطعم الوحدة السكنيّة أو ونحن خارجون من قاعة التلفاز وأسئلته الدائمة لي: ترى من الأفضل أم كلثوم أم أسمهان؟ وماذا لو لم تمت أسمهان في وقت مبكر من عمرها؟ سالم تمّان المعشني الفيلسوف الذي خلط بين بوّابتي كلية الهندسة والآداب فدخل الأولى اعتقاداً أنّها الثانية! الشاب الذي كان يتعامل مع قواعد النحو وإعراب الأبيات والجمل كما يتعامل ميسّي عند انفراده بحارس نيبال. والذي كان يتحدث في علوم الفلسفة والمنطق والتاريخ كما يتحدّث عبد الوهّاب المسيري عن الصهيونيّة. والذي كان يفهم في خبايا الطرب العربيّ الأصيل كما يفهم عاملٌ ياباني ماهر في أسرار صناعة الأدوات الكهربائيّة. ترى أين ألقت بك رياح الحياة يا سالم!

أصحو من ذكرياتي على صوت شاب أسمرٍ نحيف يقف بجواري حاملاً على رأسه جبلاً من الخبز يكاد يصل السقف يرجوني أن أشتري (العيش) الذي يحمله كي يفرّقه على (الغلابة) الذين يفترشون صحن الجامع. أعرف هذا النوع من النصب والتحايل واكتويت بناره مراراً في الحرم الحسيني والسيدة زينب. هو في الغالب سيقتسم النقود مع آخرين يمارسون ذات العمل، وسيأخذ الخبز لشخص آخر يعتقد أنّه يمكن استغفاله باسم الغلابة. الكل يتاجر باسم الغلابة، والكل يكسب عدا الغلابة!!

أطالع ساعتي لأكتشف أنها تقترب من الحادية عشرة حيث موعد القطار الذي يعود بي إلى قاهرة المعزّ. أغادر المقهى باتجاه ميدان المحطّة بينما نفحات سلطان التواشيح وملكها المتوّج سيّد النقشبندي تهبّ على روحي قادمة من مكانٍ ما قريب:

تَحلو مرارة عيشٍ في رضاكَ ومَا.. أطيق سخطاً على عيشٍ من الرغدِ

أدعوكَ يَا ربّ فاغفر زلَّتي كَرماً.. واجعَل شَفيعَ دُعائي حُسنَ مُعْتَقدي

وانّظُرْ لحالي في خَوفٍ وفي طَمعٍ.. هَل يَرحمُ العَبد بَعْدَ الله من أحدٍ؟