"عاشق القمر".. حديثٌ للروح

 

 

سُلطان الخروصي

 

كقارئ قبل أن يخط قلمي الكتابة والمتابعة للمشهد الكتابي العُماني الأدبي، شعرت بركود نقدي لإصدارات الكتاب العُمانيين في المشهد الثقافي الأدبي إنْ لم يكن فقراً مدقعاً لمتابعة ومواكبة وتغطية الإصدارات الجديدة باستثناء بعض الومضات الخجولة ضمن فقرات معرض مسقط الدولي للكتاب، والأهم من ذلك أنَّ أغلب الكتاب العُمانيين -وبالأخص الشباب-  يعملون بصمت وبعيدا عن الضوضاء، فنجد أن إصداراتهم تلقى تغطية من معظم وسائل الإعلام العربية، فهم بذلك خارج السلطنة أكثر حضورا من الداخل وهذه قضية بحاجة إلى طاولة مستديرة للبحث والتقصي، وعلى العموم فإن المشهد الثقافي يبشر بالخير العميم؛ وألاحظ أن أكثر الكُتَّاب الشباب  يتجهون نحو الاستقلالية والبحث عن النصوص الحقيقية والتجديد بعيدا عن التنظيرات والبهرجة والتغطيات والابتسامات الصفراء.

وفي هذا السياق، عملتْ بعضُ الصحف العربية قبل أيام بتغطية حول المجموعة الجديدة للكاتب العُماني خليل خميس والتي حملت عنوان "عاشق القمر"، هي مجموعة قصصية في فن القصة القصيرة وتعتبر الأولى للكاتب فجميع مؤلفاته السابقة عبارة عن روايات طويلة بداية من "بيعة الروح" و"ثلاثية الصمت" و"الفلامنجو يهاجر من تلمسان" و "لن أحمل البندقية" و "انتظار"، والمتلمس لعنوان المجموعة الحالي يجده ينضح ومنذ العتبة الأولى بالرومانسية والرِقة التي ستقود القارئ نحو حديقة غناء مليئةٌ بالقصص المتنوعة والأفكار الناضجة.

"عاشق القمر" من لا يُحب القمر؟ ولماذا اختار الكاتب القمر بالذات؟ ولماذا هذا الإصرار على تشبيه الحبيب بالقمر منذ القِدم؟ هل يقصد الكاتب القمر الحقيقي الذي نراه في السماء أم القمر هو الحبيب والخل كما درج عليه العشاق والشعراء؟ أسئلة كثيرة وجدتُ نفسي غارقا فيها وأنا أتصفح المجموعة لأول مرة، شعرت بأنني منقاد نحو عالم الكاتب عبر فضاءات نصوصه السبعة عشر: "في بئر العصافير" و"الرحلة الطويلة" و"ومضات من مخيمات اللجوء" و"تميمة اللاعودة" و"نهاية الأسطورة" و"المحارب النبيل" و"رحيل غامض" و(Dominika) و"مبدأ ومصلحة" و"المنحدرات الزلقة" و"كان لي وطن" و"شجرة النبق الكبيرة" و"نحو المجهول" و"نريدك أنت" و"عاشق القمر" و"اتْحلوا" و"رسالة حب بطعم الألم"، نلحظ تنوعا وتجديدا في العناوين التي لا تخلو منها كل قصة على حدة، بل إنَّها تجمع بين ثناياها اللهجة العُمانية الأصيلة.

يُشعرك القاص بجمال الانتقال بين التاريخ والواقع والفكر والفلسفة، بين الألم والفكاهة والحزن، مجموعة تضج بالكثير من المتناقضات والجدل والغرائب؛ وفي ذلك إشارة إلى أن القاص يمتلك رصيداً واحترافية في مهارة تحويل تلك القضايا والوقائع إلى نصوص تنبض بالحياة عبر نافذة  الحوار والتماهي الذاتي كما يظهر ذلك جليا في قصة "المنحدرات الزلقة" و"عاشق القمر"، ولنأخذ بعض النماذج من نصوص المجموعة فمثلا قصة "في بئر العصافير" مزج القاص التاريخ بالواقع مع الفكاهة، فسالم الذي علاقته بقيد الأرض سلطان بن سيف اليعربي وما رافقها من معارك وتهديد لأحد قادة الغزاة وما تم تداوله من رسائل تهديد بين الطرفين؛ حيث الفصاحة واللغة لم تكن في نهاية المطاف سوى غيبوبة طويلة فيها ذلك الحلم الذي ينتهي بضرب القائد البرتغالي الذي لم يكن سوى ممرضة هندية كانت بالقرب منه، لقد كانت نهاية مضحكة وغير متوقعة لكنها بالغة الأهمية.

أمَّا قصة "الرحلة الطويلة"؛ فهي إحدى قصص التغريبة العُمانية التي تتحدث عن الغربة وتوابعها؛ فجاءت توضح ما قام به الأجداد من مشقة لكسب العيش، علما بأنَّ القاص لديه رواية كاملة بعنوان "ثلاثية الصمت" تتحدث إحداها عن أيام الغربة العُمانية قبل النهضة العُمانية المبارك، أما قصة "نبضات من مخيمات البؤس" فلم تغب القضية الأولى والأساسية عن القاص والعرب جميعا وهي  القضية الفلسطينية؛ حيث ينطلق من مخيم اللجوء والشتات "مخيم الرشيدية" إلى ميدان الإبداع والتميز، فتوضح القصة أن لا حدود للإبداع والتميز لدى الشعب الفلسطيني رغم المآسي التي مرت وتمر عليه، وكانت نهاية القصة تراجيدية جدا؛ حيث ختم عارف حديثه -خريج المخيم- قوله: "إنه السجن الكبير الذي عشته وعاشه قبلي وتعيشه الأجيال الحالية"، والقضية الفلسطينة حاضرة لدى القاص في قصة أخرى من الكتاب والتي بعنوان "Dominika" وهي قصة جميلة جدا بطرح ذكي وبأسلوب فذ ومتميز.

وأما قصة "تميمة اللاعودة"، فجاءت ضمن مئات القصص التي يحاول بعض المخلصين التغيير في واقع أوطانهم نحو الأفضل وبالطرق السلمية المعروفة، لكنه يتفاجأ بالجدر والمطبات التي يصطدم بها لتدور الأحداث والحوارات التي تبحث عن صيغة فلسفية وأًطر معرفية في العلاقة بين من ينفذ القانون وبين من يحاول إيجاد صيغة توافقية للخروج من أخطاء الواقع أو قل بين تناغم التداعيات التي تثيرها المؤسسة المسؤولة عن تنفيذ القانون والطريقة التي يحاول البعض التغيير بها إلى الأفضل، وفي قصة "كان لي وطن" تدور أحداثها في ستينيات القرن الماضي، حينما حصل الانقلاب الدموي في زنجبار وما تبعه من مذابح وتهجير ممنهج للعُمانيين في شرق إفريقيا، فتتقاطر التراجيديا في هذه القصة وتمتلئ بالآلام والأحزان لما حصل من خلال قصة "زليخة" التي حملتها مراكب الهروب مخلفة وراءها أبناءها وزوجها الذين قتِلوا بدم بارد! وتركت وطنا أعطته كل ما لديها، ولتكون صيحتها وهي تودع ذلك الوطن وكأنها تستقرأ المستقبل: "تباً لك أيها الوطن الذي لمْ نجدْ فيك سوى المكائد! فلا شيء فيك غير الموت الزؤام! لن يعود ربيعك بعد اليوم ولن تقم لك قائمة".

وأختم قراءتي لهذه المجموعة بما قاله الكاتب والروائي المغربي مصطفى لغتيري عنها: "قصصٌ تؤمن بالهوية، وتعض عليها بالنواجذ، وتجد أحياناً في التاريخ داعما قويا لهذا التوجه الذي ارتضاه الكاتب لبعض قصصه من خلال استلهام الأحداث".

sultankamis@gmail.com