رحلة في الذاكرة

 

 

جوخة الشماخية

 

كانت الساعة تشير إلى الثالثة مساء عندما بدأت الطائرة تقترب من مدينة كوتشي (أو كوشين)، وعن بعد تتراءى للناظر بيوت صغيرة يمتزج فيها اللونان الأزرق والأحمر، وأرض مكسوّة بكساء أخضر، ومياه تغطي معظم أنحاء البسيطة، كوتشي الملقّبة بـ (ملكة بحر العرب) هي إحدى مدن ولاية كيرلا الهندية، هذه الولاية الخضراء الساحرة، المتميزة بطبيعة خاصة مقارنة ببقية أنحاء شبه القارة الهندية، هي أكبر المقاصد السياحية جذبا للزوار، وقد ظلت على امتداد عصور طويلة وجهة للتجار والباحثين عن العلاج.

زوجي كان هو الرفيق الوحيد لي في هذه الرحلة، بعد الوصول إلى المطار كان بانتظارنا (عبدالصمد) سائق سيارة الأجرة الذي أرسله (أيوب) الذي أوكلنا له مهمة التخطيط لرحلتنا، وأيوب هذا كان يعمل في عمان لسنوات طويلة، وتحديدا في ولاية (عبري)، لذا كان يتكلم معنا باللهجة العمانية، أخذنا (عبدالصمد) إلى الفندق الذي سنقيم فيه واسمه (فندق الشمس). وفي صباح اليوم التالي ذهبنا إلى مستشفى (استر الطبي)، لبدء الفحوصات والعلاج، هذا المشفى عبارة عن مدينة طبية متكاملة، واسع جدا، توجد فيها جميع التخصصات، يقع بعيدا عن زحمة المدينة، يطل على بحيرة من المياه، وتحيط به الأشجار من كل مكان، في الأيام الأولى ستشعر بأنه من الصعب عليك معرفة مداخله ومخارجه، لكن مع مرور الأيام ستصبح قادرا على معرفة كل شيء، وإن تهت وكنت لا تعرف اللغة الإنجليزية ستجد المترجمين والمترجمات في كل أنحاء المستشفى، يرتدون ملابس تميزهم عن الوظائف الطبية الأخرى، مرة تحاورت مع أحدهم باللغة العربية، سألته أين تعلّم اللغة، فأخبرني بأن لديهم معاهد خاصة لتدريسها، أخبرته بأنني محاضرة للغة العربية في إحدى كليات سلطنة عمان، واطلعته على بعض مقالاتي المخزّنة في هاتفي قرأ بعض الجمل من أحد المقالات وابتسم . لأول مرة ارتاد هذا المشفى، وأول ما لفت انتباهي كثرة المراجعين من العمانيين، تشعر وكأنك في عمان، فكما نعرف بأن الهند وتايلند هما وجهة معظم العمانيين حين يبحثون عن علاج في الخارج.

كوتشي مدينة نابضة بالحياة، بسيطة وهادئة نوعا ما مقارنة بمدن الهند الأخرى، لا تشعر فيها بالغربة ولا بالخوف، فالهنود جزء من مواطني عمان، الكوتشيون طيبون وكادحون، يستقبلونك بابتسامتهم المعهودة، كنت كثيرا ما أنزل للتسوق أو التصوير واستبقي حقيبة يدي في سيارة الأجرة التي تقلّنا، وأجدها على حالها لم ينقص منها شيء.

أهالي كيرلا اعتادوا على الزوار العرب وبالذات أهل الخليج العربي، لذلك تجدهم يتكلمون معظم اللهجات الخليجية، يتحاورون بها معنا في المشفى وفي سيارات الأجرة وفي المطاعم ذات الطابع العربي، التي تقدم مختلف المأكولات العربية، حتى الطبيبة التي عالجتني كانت تتحاور معي بلهجة خليجية، أذكر أول كلمة حيتني بها في أول لقاء بيننا، هي كلمة (إشلونك)، أثارت فضولي، وقبل عودتنا بأيام سألها زوجي أنّى لها بهذه اللهجة، فأخبرتنا بأنها عملت لسنوات في أحد مستشفيات دولة الكويت الشقيقة. أحببت هذه الطبية ذات الملامح العربية والابتسامة التي لا تفارق وجهها رغم زحمة النساء المراجعات عندها، هي من منحني الأمل في الشفاء بعد الله تعالى ودعاء الأحبة، أدركتْ مخاوفي وباستمرار كانت تبثّ الطمأنينة في نفسي، لن أنسى الدكتورة (شميمة) ما حييت.

كيرلا بلد سياحي وهبتها الطبيعة جمالا فاتنا، تداعب حبات المطر أشجارها معظم أشهر السنة، فتنتعش وتبدو أماكنها أكثر جمالا، في فترة بقائي في المشفى كنت كثيرًا ما أشاهد منظر سقوط المطر من الطابق الرابع، فاستمتع بذلك المشهد، كان المطر يسقط فجأة بلا مقدمات، فلا رعد ولا برق ولا رياح، كل ما يحتاجه فقط تجمّع للغيوم .

من أجمل الأماكن التي كان لنا نصيب في زيارتها مكان يسمى (مونار) وهناك ستقع عيناك على أشجار عملاقة، وجبال شاهقة مفروشة ببساط أخضر على امتداد البصر، حيث توجد حقول الشاي ومزارع البهارات وأشجار الأرز وجوز الهند والأناناس وغيرها، كما زرنا غابة الأفيال والمستعمرات التاريخية التي خلّفها المستعمرون الأوروبيون الذين تعاقبوا على كيرلا، كالبرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والبريطانيين، وحين تتجول في هذه المستعمرات يشد انتباهك الطراز المعماري الأوروبي المدهش والذي لايزال صامدا حتى يومنا هذا. أيضا زرنا الشواطئ الجميلة الخاصة بالتنزّه أو الصيد، ومعظمها متركز في مكان يسمى (فورت كوتشي)، وصيادو السمك في كيرلا يشتهرون باستخدام الشباك الصينية، فتشاهدهم يمتدون عبر الشاطئ يعرضون أنواع الأسماك المختلفة، ويدعون المارين للشراء، فلا تستطيع أن تمنع نفسك من التوقف، إن لم يكن للشراء فللمشاهدة. وبالقرب من الشاطئ تنتشر الكثير من المطاعم الصغيرة المكشوفة، والعديد من (الكشكات) التي بإمكانك أن تشتري منها جوز الهند والمانجو، أو تقتني بعض الهدايا التذكارية، لا سيما الملابس الهندية والمشغولات اليدوية، والباعة كل يدعوك إلى بضاعته، فلا تقوى إلا أن ترضخ لنداءاتهم وتشتري شيئا منهم.

كيرلا بلد يعتز بعاداته وتقاليده وتنوّع ثقافاته ولغاته ودياناته، كل ذلك ينصهر ويتناغم مع بعضه بعضا في تعايش سلميّ وتصالح مع تلك الاختلافات، فلا تستبعد أن ترى المسجد بالقرب من الكنيسة، الجميع يمارس حياته وفقا لانتمائه، كل ما يشغلهم هو العمل دون كلل أو ملل، من أجل حياة أفضل، أناس في قمة العطاء والتحدي، شبابهم يعملون في مختلف الأعمال، دون ترفّع عن العمل في أبسطها، الشوارع لا تتوقف عن الحركة، تصلك أبواق السيارات إلى كل مكان أنت فيه.

ربما ما ينقص كيرلا -حسب تقديري - بعض المشاريع التنموية لتصبح مدينة سياحية جاذبة من الدرجة الأولى، فأكاد أجزم بأنها إن وجدت اهتماما أكبر، وتمّ التركيز فيها على ما يخدم قطاع السياحة، ستكون لها مكانة سياحية عالمية، لأنها تمتلك مقومات طبيعية متميزة تؤهلها لذلك، وربما كما يقال: بداية الغيث قطرة، فهي الآن تشهد تشييد جسر للسكك الحديدية، لربط مدن كيرلا جميعها، يعدّ هذا المشروع من أضخم مشاريع الهند، والهند معروفة منذ القدم باهتمامها بالسكك الحديدية، نظرا لحاجتها لها كوسيلة مواصلات مهمة، فالقطارات هي وسيلة نقل أساسية في بلد كالهند يفوق عدد سكانه البليون نسمة .

قضينا شهرا كاملا في كوتشي، وبالرغم من أنّ الهدف من رحلتي هو العلاج، لكنني حاولت أن استمتع بكل لحظة حتى أتناسى مرضي، في غرفتي في المشفى كنت أقرأ وأكتب وأبث كتاباتي والإسقاطات التي تركتها الرحلة في نفسي في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، أتمنى أن أزور كيرلا مرة ثانية، ولكن هذه المرة للسياحة وليس للعلاج وبرفقة زوجي وأولادي.

تعليق عبر الفيس بوك