إلى نخلة وهبة: مدرسة حديثة اتكالية أم مدرسة تقليدية لقطاف أزهار البرتقال

 

 

د. سيف المعمري

 

فاجأ التربوي العربي اللبناني نخلة وهبة الأوساط التربوية بإصدار كتابه المثير للجدل "تعليم الجهل: مأزق المدرسة مع التربية الحديثة"، والذي دشّن في معرض بيروت منذ أسبوعين، نخلة الذي أعتقد البعض أنّه قال ما يود قوله في عالم التربية في كتب السابقة، وأنّه أعتزل عالم التربية ربما بسبب السن الذي جعله يترجل من على الفرس الذي كان يمتطيه لعقود أو أنّه أعتزل محبطا يائسا من تقدم التربية العربية التي عاشها خلال تلك العقود، متنقلاً فيها بين مدارس وجامعات، شاهدا على كيف يتعامل مع التربية كعلم حديث في الوطن العربي، باحثا عن ضوء في آخر نفق حياته التربوية، ولكن كان ذلك الاختفاء تدبرا وتحليلا خرج منه نخلة بكتابه "تعليم الجهل"، هل أصبحت المدرسة تعلم الجهل بدلا من أن تعلم التنوير؟ يا لها من مهمة متناقضة تلك التي يرى نخلة المدرسة تقوم بها، ويا لها من مجتمعات تلك التي ترسل أبناءها إلى المدرسة ليتعلموا الجهل، ليتم تقييد فكرهم عن المعرفة، وعقولهم عن التفكير، ودافعيتهم عن الانطلاق، ومهاراتهم عن التطور، وطفولتهم عن اللعب، وقيمهم عن الإخلاص، وفطرتهم عن الصمود.

 

نخلة الذي كتب ذات يوم "رعب السؤال" تناول فيه كيف ترفض مدارسنا السؤال في وقت تتدعي أنّها تعمل وفق منظور بنائي حديث، ترفض هذا السؤال الذي يعتبر وسيلة للمعرفة، فلا معرفة بدون تساؤل، مما يعني ألا حرية في المكان الذي يفترض أن يعلم الحرية، هذا والمدارس تغلف عملها بمبادئ التربية الحديثة التي لم تكن إلا إطارا مضللا لإخفاء ممارسات تقليدية لا تؤدي إلا لترسيخ الجهل، فأي طلبة تخرجهم هذه المجتمعات التي تقف اليوم في مأزق وجودي فكري وسياسي واقتصادي، تضرب الفوضى مختلف أركانها، ويتشوه كل شيء من الإنسان إلى المكان، بل إنّ المكان صار في بعض المدن أرقى من الإنسان، وأصبح القادمون والسياح يقدرونه أكثر من تقديرهم للإنسان، فمتى نعيد للإنسان إنسانيته المسلوبة نتيجة ما يدرس له في مدراس حديثة في كل شيء إلا في التزامها بالحفاظ على حق الإنسان في إنسانيته وما تولده هذه الإنسانية من متطلبات من الصعب تقييدها وتنميطها تحت شعار ما يُسمى بالتربية الحديثة التي لم تفلح اليوم في البلدان العربية في بناء مجتمعات حديثة على الرغم من أنّ المدرسة ينظر إليها على أنّها مصدر إشعاع وإعادة بناء للمجتمعات التي تعاني من صراعات وانقسامات وتحديات وتبحث عمّا يساعدها على تحقيق السلم الاجتماعي وبناء الأهداف المشتركة التي يستفيد منها الجميع، فالفوضى والعنف والتطرف والانقسام والطبقية والصراعات تضرب كل المجتمعات العربية بدرجات متفاوتة لكن لم ينجو منها أحد، بدون أن تكون المدرسة منقذا بل أصبحت ضحيّة لكل ذلك.

 

لقد أعاد نخلة بكتابه هذا مشاغبات قام بها كثير من التربويين خلال العقود الماضية والذين نظروا إلى أنّ التحديات التي تمر بها المدرسة الحديثة ناتجة من كونها أنشئت لتحقيق غايات معينة نظرًا لها كل من منظور مختلف، وفي مقدمة هؤلاء كان"إيفان إيليتش" الذي أطلق صرخة "مجتمع بدون مدارس" وطالب بتحرير المدرسة من طقوسها وقيودها من أجل تحرير الإنسان الطالب، وظهر أيضا "باولو فيريري" الذي نظر إلى المدرسة بأنها مؤسسة تقوم على توظيف بيداغوجيا فيها اضطهاد للطلبة وكتب كتابه "تعليم المقهورين" انتقد فيه التعليم البنكي الذي تمارسه كثير من مدارس العالم بغية إعاقة التغيير في المجتمعات، ونظر "بورديو" إلى المدرسة بأنه مؤسسة تمارس العنف الرمزي وهي حيث وضعت المناهج للصفوة في حين تركت بقية المدارس بمناهج مهترئة تقود إلى فشل قطاعات كبيرة من الطلبة على تحقيق طموحاتها، ونظر "ريمون بودون" أن المدرسة مؤسسة لترسيخ حالة اللامساواة والحظوظ، ففي الوقت الذي تم تعميم حق التعليم لا يحصل بعد ذلك الطلبة النابغون على نفس الحظوظ في التعليم العالي أو التوظيف حيث تبرز الهيمنة الاجتماعية التي تمارس عملية الفرز والتصنيف على أسس طبقية، وأكد "برنارد شارلو" أنّ المدرسة لا يمكن لها أن تتغير بدون نضال طبقي، لأنّها مؤسسة مسيجة ومحروسة من أي تغييرات قد تجعلها تقود تغيير في المجتمع يهدد مصالح الفئات التي تجعلها بهذا الضعف وهذه الهشاشة، وكان "هورت" حادًا في نقده وشبه المدرسة بـ "المومس" حيث تحوّلت إلى مؤسسة يتم المقاولة معها إلى إنتاج عمالة رخيصة جدا مما يعيقها عن ممارسة وظيفتها الأساسيّة وهي إنتاج المعنى وتهيئة الطلبة لتغيير المجتمع بكل تراتبياته، وبالتالي إن كانت المدرسة الحديثة لا تنتج إلا تشويها للمعنى وضبابية للعالم الذي يعيش فيها الطالب، فهي كمدرسة حديثة تمر بمأزق كبير كما عبر نخلة وهبة في كتابه القيم الذي لابد أن يخضع ما جاء فيه للنقاش والنقد والحوار الجاد بغية النهوض بالمدرسة التي لا يختلف اثنان على أنّها تعيش في حالة مربكة جدا، وأن حالة التفرج عليها تعمق من مأزقها، وتعمق من مأزق المجتمعات التي لا يمكن أن ترقى إلا بالإنسان.

 

أذن إلى متى ستستمر المدرسة في مأزقها هذا والمجتمعات والعالم يمر بتغيرات كبيرة؟ تتطلب إنسانا واعيا ومنتجا، إنسانا لا تعطل قدراته حتى ينتهي من المدرس، إنسانا لا يفقد عشرين عاما من عمره بدون أن ينتج شيئا، هل نحتاج مدرسة حديثة تخرج لنا إنسان غير حديث أم نحتاج مدرسة حديثة تخرج لنا إنسانا حديثا منتجا ومشاركا يقوم على إعالة نفسه بدلا من أن ينتظر أسرته ومجتمعه ودولته أن تقوم بإعالته لكي يتفرغ هو لقتل وقت الفراغ الذي يعاني منه، لكن المدرسة غير قادرة على تحقيق ذلك ولذلك تعاني اليوم من علات كثيرة ولذا كان نتيجة تلك المعاناة انتشار التعليم الخاص، والدروس الخصوصية، والغش في الاختبارات، وفي التقييم على مختلف الأصعدة، وفي ما يقدم من أنشطة، المدرس يريد أن يرضي المشرف، والمشرف يريد أن يرضي مديرية الإشراف، والمدير يريد أن يرضي المديرية التعليمية، والمدرسة تريد أن ترضي أولياء أمور الطلبة، والمدارس تريد أن ترضي لجان تقييم الأنشطة، وأولياء الأمور يريدون أن يرضوا المعلم بالقيام بنشاط معقد نيابة عن أبنائهم، المؤسسات المسؤولة عن التعليم تحتاج لترضي الحكومات التابعة لها، وحين يخرج هؤلاء بدون مهارات أو بمهارات ضعيفة في المسابقات الدولية أو في اختبارات القبول تتبرأ هذه المؤسسات الكبيرة والقوية من تبعات ذلك، وترمي المسؤولية فقط على الأسرة المؤسسة الضعيفة المطلوب منها في ظل تعقيدات الحياة أن تتحمل أخطاء جميع المؤسسات وأن تدفع ثمن ذلك، فكيف نعالج هذا المأزق وننقذ الأسر من قفص الاتهام الذي توضع فيه؟

لقد لا يحبذ البعض الدعوة إلى إلغاء المدرسة ليس بسبب الحرص على التعليم وتشكيل المعنى الذي لم تنجح المدرسة الحديثة في القيام به، ولكن للحفاظ على تحقيق غايات سياسية واقتصادية تقوم بها المدرسة بقصد أو بدون قصد، وبالتالي نحن أمام مفترق طرق، إمّا أن نحافظ على وجود مدرسة حديثة تعيق تغير المجتمع وتعرقل تحرر الإنسان الفكري، أو نعمل على تقديم مدارس بفلسفة مختلفة تتلاءم وظروفنا مدارس تجعل الطلبة ينطلقون إلى قطاف أزهار البرتقال أو الليمون أو الموز، في المزارع المختلفة، أو مدارس تساعدهم على تعلم صناعات تقليدية يدرسون تاريخها وعمقها التاريخي، أو تأسس لهم ورش وعامل في المدارس فيتعلمون ويعملون وينتجون، وتنضج شخصياتهم، إن بقاء المدرسة في شكلها الحديث المقدس الذي لا يملك أحد على النيل من قدسيته خطر كبير على مجتمعنا، وقد ظهرت لنا مؤشرات لذلك الخطر غير مرة.  لأننا نضع سبعمائة ألف من أطفالنا في المدارس ونأمل منهم أن يكونوا أدوات بناء للمجتمع والارتقاء به، خاصة في ظل انحسار دور المصدر الوحيد للدخل لدينا، إن لم نحدث تغييرا سريعا فإنّ المدرسة ستظل كما يرى نخلة هبة تقوم بعملية تعليم الجهل، الذي سندفع ثمنه ضعفين، مرة قبل أن يتخرج هؤلاء الطلبة، ومرة بعد أن يتخرّجوا.