بناء العقول!

 

 

هلال الزيدي

من المرجَّح أن يجنح العقل البشري إلى الضعف والسكون لدرجة "التلبُّد" إذا لم تتفاعل الخلايا مع مُحرِّكات الجسد الفاعلة في إحداث التغيير؛ ومن المتوقع أن تشيخ الأفكار إذا اصطدمت بواقع لا يأبى الفكاك من ربقة التقليد المعلب؛ ومن المؤسف جداً أن ترى تقاطع الإنسان مع ذاته من حيث وضع أولوياته.

ومن المخزي حقا أن يجتهد البشر في صياغة بنود التصادم للنيل من بيئتهم ومكوناتها؛ ومن المحزن صدقا أن يُفْرِط المخلوق في تقديس مخلوق آخر بُغيةَ تحقيق مصلحة ما؛ وذلك عبر إعلانه السافر لتنازله عن مبادئه كافة، ومن المؤلم وقعا أن يرتدي الإنسان أقنعة لا تتوافق مع مقاييسه فيظهر إنسانا "ممسوخا"، ومن الإجحاف أن نحمّل مخلوقات الأرض "العاقلة" كل ما يحدث من غوغائية منظمة في محيط ما فيما هي بريئة من تلك الأخطاء؛ ومن المؤكد أن ثقافة الاختلاف هي ديدن البشر وإثبات كينونتهم لذا فإننا نوغل في التقاطع لنثبت بأن في المخالفة معرفة؛ ومن الطبيعي جدا أن تكون هناك وهنا طبقة اجتماعية يمارس عليها كل أصناف التجارب فهي حقل ممتد لمن أراد خوض غمار التجربة مهما كانت النتائج؛ ومن السهل جدا أن نبحث عمن يتحمل الخطأ لنلصق عليه التهمة؛ ويكون كبشا وديعا طائعا لحدة السكين. ومن السهل يقينا أن نُثبت للآخرين قبل ذواتنا بأننا أصحاب عقول بناءة هدفها التعمير لا التكسير، ومن المفرح جذلاً أن نحتفي بواقعنا ومنجزاتنا تحت ستار الوطنية في المقابل لا نقدّر قيمة العمل من أجل الوطن، ومن البساطة أن نُبسط تكافلنا تحت غطاء التعاون وخلف الأكمة ما خلفها. ومن الطبيعي أن أجد من يختلف معي شخصيا لذاتي وليس مع أفكاري، ومن الغرابة أن تُصاغ الأفكار لتنجح ثم تُنسب لشخص واحد فقط فيما هناك من عَمِلَ واجتهد لكنه لا يظهر، وبالتالي يذهب تعبه لصالح "س" من الناس، كالمثل العماني القائل:"كدّي يا غزالة.. وكُلي يا سبالة"، مع احترامنا لكل الغزلان و"السبلان".

عندما تتكشّف السوءات عن بكرة أبيها نبدأ في التفكير في الأسس المهلهلة التي صنعت ذلك العمل أو ضعت تلك الإستراتيجيات والخطط فنطفق بحثا عن مشكلة أخرى باعتقادنا أننا نصنع حلا لها، لكن في الواقع لا تعتبر تلك الانتفاضة إلا عقبة تنتكس من خلالها الأوضاع التي من شأنها أن تبني الحياة بمختلف تحدياتها؛ ولعل هذا يتضح في الأزمات الاقتصادية التي غيرت مجرى حياة الكثيرين؛ ونسفت تطلعاتهم في بناء مستقبل واضح، من هنا نعود إلى مبادئ بناء العقول التي تستطيع أن تتنبأ لكثير من الحوادث شريطة أن تنتهج الشفافية وتنبذ المجاملات، لأن بناء الأوطان يحتاج إلى تجرد من المصالح الشخصية واحترام القيم الخلاّقة لنستطيع مواجهة العواصف مهما عتت في شدتها.

إنَّ بناء العقول بطريقة ممنهجة رصينة هو الأفق الذي نطمح إليه للمحافظة على المنجزات شريطة أن لا نوغل في التمجيد بمجرد إيجاد مقياس لوطنيتنا أو لنعلن عن وجودنا بغية اكتساب الشهرة من أبوابها الضيقة، لذا فإن الطريقة البنوية لإنجاح مسار أي حضارة يعتمد على فاعلية القوى البشرية واحترام العقل الذي يصنع المفكرين الفاعلين في خضم انتشار الثقافة السطحية الهزيلة؛ وبالتالي نستطيع بناء أجيال تتخاطب بقوة العقل في تقييمها للحضارة وتستطيع في ذات الوقت أن تضع خُططا متميزة في مرونتها وقابلة للتغير عبر استقراء المستقبل من خلال فهم الواقع؛ لذلك فمن الواجب التوقف لتقييم ما تحقق وكيف تحقق؟ وكيف يمكننا أن نبني عليه متطلباتنا دون الوقوع في الأخطاء التي من شأنها إن تزيد من اتساع الفجوة؟ وهذا يحتاج إلى عقول ثابته لا متغيرة؛ وعقول رصينة مرنة لا متحجرة، وعقول أبيّة شامخة لا منحنية، وعقول قوية في تغليب المصلحة العامة خلاف الخاصة، لا عقول إنانية يبحث عن مبتغياتها.

عندما نتحدث عن بناء الفكر فمن نافلة القول ضرورة ربط الحديث بقوة التعليم المفضي إلى إيجاد عقول مفكرة، فكلما كانت القاعدة الحاملة لهذا التوجه قوية فمن المؤكد أننا نستطيع أن نصنع العقول الحاضنة للأفكار البناءة، وهذا يقودنا إلى هامش الاستقلالية التي يجب إن يتحرك فيها العقل البشري حتى يتمكن من تجويد المشروعات التي تشكّل مصدر الإنتاج، وبدورها فأن الذاكرة وقوتها هي منبع الفكر مع مراعاة عدم هيمنتها على ما حُشي فيها من معلومات؛ حتى لا تجنح إلى ترديد تلك المعلومات لمجرد إنها شكّلت شيء من المعارف؛ وكذلك حتى لا تكون غوغائية في قراراتها، وتُفتن في مخزونها الغير موافق للواقع أو للمرحلة الزمنية، وعليه فأن عنصر التجديد والتحديث هو الأهم حتى نستطيع إيجاد مفكرين قادرين على مجابهة التسلط والانفلات من ربقة النظرة الأحادية.

لا يختلف اثنان على أن الإنسان "العاقل" المقدّر لمكتسبات وطنه يعد أحد الأركان التي تقود التطوير والتغيير، فهو نبع متدفق من الأفكار المبدعة، والاهتمام به هو اهتمام بالوطن، من حيث إيجاد الحافز الإيجابي له وتوفير بيئة متوافقة مع عقله، وهذا ما يقودنا إلى ما يعرف باقتصاد المعرفة المبني على العقول، فكلما كان البناء العقلي الفكري قويا، كان الاقتصاد المعرفي قويا من حيث تنوعه وثباته، ليكون عامل مساهم في التنمية التعليمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المكونة لمفردات هذا الوطن.

إن تقييد العقول جراء الفرض وممارسة التسلط عليها هو ما يدفع الفكر إلى نهايتة حيث يعيش في صورة نمطية لا تعطي نتاجا متعددا وإنما تفصيلا بمقاييس محددة فتخبو الهمم وتتعالى الأفكار التقليدية التي لا تتناسب وحجم الفكر المعرفي لدى الإنسان، وبالتالي فهو مطالب أن يتحرر من القيود المبنية على النزعات الفردية أو الجماعية، والأراء المصاغة من طرف واحد تحت عوامل فردية أو عرقية أو مذهبية، وذلك حتى ينطلق بفكره ويطهّره من شوائب الخُرافات والأساطير البالية، ويبعده من صنمية تقديس الموروث دون بحث أو تقصي.

-----------------------------

همسة:  

أيُّها الإنسان: لا تطمر عقلا.. ولا تُهجّر فكرا.. ولا تقصي كيانا لمجرد أنه يختلف معك.. فرب اختلاف صادق أنفع من اتفاق مراوغ مجامل.

 

abuzaidi2007@hotmail.com

 

 

* كاتبٌ وإعلامي