الرصد وتحليل المضمون الإعلامي .. الضرورة الملحة

 

هلال الزيدي

الحرفُ.. الكلمةُ.. الجملةُ.. الفقرةُ.. النصُ.. الكتابُ.. الرسالةُ الإعلامية.. هذه المكونات جميعها تكّون المادة المعرفية التي ازدهرت مع تطور الفكر الإنساني وأصبحت نتاجًا فكريًا معرفيًا يستند عليه في حياته وعلاقاته بالآخرين، فكلما توسعت الجغرافيا وارتفع عددٌ السكان كلما زادت المعرفة وتنوعت، كون أنَّ المصدر المُغذّي للعلوم الإنسانية والاجتماعية هو مصدر مُتعدد ومُتنوع بتنوع الاتجاهات والسلوكيات في كل بقعة في العالم، والمبنية على توافر أدوات التعلم، التي تشهد تبدلاً في كمها ونوعها، خاصة تلك المرتبطة بالتقنية الحديثة التي جعلت من سرعة وسهولة انتقال المعلومة أمرًا مهماً وخطيرًا في ذات الوقت والذي يجب علينا التركيز عليه، مما جعل الأفراد يعبّرون عما يجول في نفوسهم بداية من الإنتاجات الفكرية وليس انتهاءً برغبتهم في التعبير تحت إطار الحرية الإنسانية.

مع التدفق الكبير للمعلومات عبر وسائل الإعلام كافة، أصبحت الحاجة ملحة للعمل وفق آليات الرصد الإعلامي وتحليل المضمون من أجل الوقوف على مُتطلبات المرحلة الحالية واستشراف المستقبل بناءً على ما تفرزه الطاقة البشرية من علوم ومعارف مستوحاة من البيئة الواقعية، كون أنَّ فهم اتجاهات الرأي العام مُهمة في رسم السياسات وبناء الاستراتيجيات لتفعيل الشراكة المُجتمعية بينُ متخذ القرار أو المُشرّع في مُختلف المجالات وبين المجتمع، إلا أنَّ التركيز على وسائل الإعلام يُعتبر الأساس في إيجاد منظومة تحليلية راصدة لكل نتاج فردياً كان أم مؤسسياً، كون أنَّ التحليل بتعريفه الدلالي والنظري بدأ في كنف الصحافة وازدهر مع تنوع وسائل الاتصال كونه يعتمد على القيمة المادية والمعنوية من حيث المضمون والكم المتمثل في ثورة المعلومات وتدفقها بشكل سريع، لذا كان من الضروري جدًا أن يتكّون ما يُطلق عليهم بالمُحللين المختصين الذين يعملون على جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها وتفسيرها ووضع الاستنتاجات التي تهم صانع القرار فيما بعد، مستندين على ما تُقدمه وسائل الإعلام من دور في هذا الجانب.

.. تحليل المضمون الإعلامي ورصده هو أحد أبرز الاتجاهات التي يجب على الحكومات العمل به وفق استراتيجيات التَّحول والتَّغيير، وبناء الخُطط قصيرة المدى أو طويلة المدى، كونها تمثل قياسًا واضحًا في احتياجات الشعوب وما تُفكر به، فكل مضمون مكتوب (مقروء) أو مذاع (مسموع) أو مرئي، يحمل في طياته الكثير من الرسائل المُباشرة أو الضمنية، وكثير من تلك الفنون تقع تحت مسألة "ما بين السطور" أو "ما وراء الحدث" بمعنى: أنَّ هناك رسائل إعلامية مُباشرة في متطلباتها ومعانيها، وأخرى رسائل ليست مُباشرة وتحتاج إلى تمحيص أكبر، كالمعنى الذي يشير إلى المثل العربي القائل" إياك أعني فافهمي يا جارة"، وهذا ما يُعطي للمعلومة أبعادًا مختلفة فتظهر على أثر ذلك مصطلحات ومفاهيم أكثر عمقاً في التَّعاطي الثقافي البشري، تحتاج إلى مناهج بحث مُتفردة تُبنى فيما بعد عليها قرارات ذات صبغة جمعية.

إنَّ الضرورة في إيجاد مركز للرصد الإعلامي وتحليل المضمون مرحلة يجب التفكير فيها بجدية تامة وعلى مستويات الحكومة مُمثلة في مجلس الوزراء، ـ كونه الجهة المشرّعة أو الجهة الأعلى في التصنيف القيادي الحكومي ــ لوجود الكثير من الرسائل المتضمنة على رؤى وتطلعات مختلف الأجيال، والتي تحتاج إلى تمحيص وتعليل، إلى جانب تفسير مُختلف الظواهر التي تنتشر في المجتمع سواء تلك التي تصب في جانب الإيجابيات أو تلك التي تصنف في خانة السلبيات، كما أنَّ إيجاد قراءة مسبقة لكثير من الأحداث مهم جداً في رسم السياسات والقرارات التي تهم المجتمع والأفراد على حدٍ سواء، وهذا ما يُقدمه بطبيعة الحال منهج التحليل الإعلامي، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أبرز الوسائل التي تكّون توجهات الرأي العام وهي الوسيلة المؤثرة في انتشار المعلومة وتكوين السلوكيات وبناء الآراء، ولعل ما تشهده الساحة في الفترة الأخيرة من مقاطعات لشركات الاتصالات هو المؤشر الذي يُعطي أبعادًا مختلفة في المُستقبل، كما أنّ وجود المرصد الإعلامي يُعد المستقبل الذي يفتح ذراعيه لدراسة كل ما يُقدم من مقترحات بصفة مباشرة من صاحب الفكرة نفسه، أي دون وجود وسيط أو أدوات تشوش صفاء الرسالة المراد توصيلها.

من المهم جداً فهم ما يقوله أو يكتبه الآخرون من حيث فك رموزه وتحديد توجهاتهم فيه للتفاعل معه، وهذا ما يؤطره بطبيعة الحال مصطلح تحليل المضمون، فكلما اقتربنا من ما يهتم به الآخرون كلما استطعنا تجسير الهوة بين المسؤول والمواطن، وهذا بدوره يقلل من الوقوع في المشاكل والصعوبات الناتجة عن سوء الفهم لما يُقال أو يكتب أو عدم الانتباه له، ولعل الفهم الذي أريد الوصول إليه في هذا الطرح هو الفهم العميق المُستند على الأسس العلمية والموضوعية المُتعارف عليها في مناهج التحليل والرصد الإعلامي والتي تُحذّر وتكشف كل بؤرة تتشكل لمشكلة قادمة جراء تلك الرسالة، مع ضرورة الابتعاد عن الاجتهادات والتحليلات الشخصية المبنية على التصورات النمطية والواقعة في دوائر التطمين غير الصادق أو ما يُسمى التخدير الموضعي لمكان الألم.

تحليل المضمون لا يُقصد به تلك الجهود التي تقوم بها بعض الأقسام والدوائر المهتمة بالإعلام والعلاقات العامة في مختلف الجهات والمؤسسات من تتبع وأرشفة لما يُنشر من معلومات أو رسائل عنها أو ضدها، لأنَّ دورها المعروف لا يتعدى فقط القراءة السريعة، وتتشابه مع أيّ قارئ أو مُشاهد أو مُستمع، فهم قُراء وليسوا باحثين في المنهج التحليلي، وبالتالي هم بحاجة إلى تعمق أكثر في التَّحليل وفهم أطره وعناصره وأهدافه، عبر منح الموظفين دعمًا من حيث حضور الحلقات التدريبية التي تعنى بغرس أسس ومبادئ وآليات التحليل والرصد الإعلامي، كون تلك المؤسسات الخدمية تحتاج إلى فهم توجهات المُستهلكين أو المستهدفين من خدماتها ومدى درجة الرضا، مما يُسهم في التحسين والتغيير ورسم أفكار وسياسات جديدة تواكب مستجدات العصر.

إنَّ مَعرفة توجهات المُجتمع، والظروف التي يعبّرون فيها عن رأيهم إحدى الضرورات المُفضية إلى فهم دقيق في سن القوانين والتَّشريعات من قِبل الجهات المُختصة كما أنَّها أي تلك التوجهات: تُساهم في تعديل المسارات المُتمثلة في إقامة المشاريع الخدمية ومدى نجاحها على المستوى المُؤسسي أو المجتمعي، هذا إلى جانب معرفة التوجه الإعلامي الذي تسير عليه المؤسسات الإعلامية عبر الرسائل التي تقوم ببثها، سواء كانت عامة أو خاصة، أو إبداعات فكرية تنتمي للعمل الحُر عبر منصات التواصل الاجتماعي أو ما شابه ذلك، إذاً نحن نحتاج إلى مراكز ترصد النتاج الفكري المبني على إرهصات الحياة وما يدور في العالم بشكل أوسع.

همسة:

الاهتمام بالرصد الإعلامي وتحليل المضمون ضرورة مُلحة تُساعد على فهم متطلبات الحاضر ورسم سياسات المُستقبل، كما أنَّها مؤشر على مدى التَّحضر التي تصل إليه الشعوب.

هلال بن سالم الزيدي

كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com