د. سَيْف المعمري
في الوقت الذي تقوم فيه منابر سياسية ودينية وإعلامية وتربوية في المنطقة بتأجيج خطابات العنف والتطرف، وتعزِّز من نبرة التشدُّد التي تكاد تقضي على فسحة الأمل التي لولاها لضاقت الحياة بمن رحبت، وتفقد كثيرون الأمل في لحظات أقل ما يمكن أن توصف به بأنها لحظات فقدان الأمل في غد مشرق يعود فيه كل المتشددين إلى رشدهم، وينتزعون من أنفسهم هذه الطاقة التدميرية التي يحملونها للحضارة والاستقرار، ويعيدون أبناءهم إلى أوطانهم، يدمجونهم في مشاريع وطنية ترقى بأوطانهم، يوجهون لها الأموال الطائلة التي تنفق حاليا على حروب ليست خاسرة فحسب إنما هي حروب مدمرة ونتائجها ستظل شاخصة لأعوام طويلة، في مثل هذه الفترات العصيبة لابد أن يلتف الناس في المنطقة حول أطراف الممانعة للمتشددين والإرهاب والعنف، من دول وجمعيات مدنية أخذت على عاتقها تحمل كلفة الرشد في زمن الجنون، أطراف تتحدث بلغة قد لا يفهمها الناس حين تحشدهم أطراف كثيرة للحرب، وحين تجندهم قنوات كثيرة للتدمير، وحين تصادر مرجعيات دينية منهم العقول، وبدلا من أن تزرع بداخلهم حب الإنسان وحب الحياة تزرع بداخلهم حب القتل والموت، وبدلا من أن تجعلهم يحققون رسالة الإسلام بداخلهم تقودهم إلى تشويه هذه الرسالة الخالدة التي نادت الإنسان بمحبة أخيه الإنسان، وحثته على عمارة الأرض لا على تجريدها من أهم عنصر فيها وهو الإنسان.
استحضرت كل هذه المعاني كإنسان عُماني قبل أن أستحضرها كباحث حين دعيت من إحدى جهات الممانعة للعنف والحروب مؤسسة أديان للمشاركة في احتفالها في نهاية الشهر الماضي ببيروت بمرور عشر سنوات من الجهد لبناء جيل الممانعة للحروب، كان الحصاد خلالها كبيرا، وكان الجهد وقتها قد يبدو صعبا فمن يتكلمون بدون سلاح في المنطقة ينظر لهم على أنهم أضعف من أولئك الذين يقولون كلماتهم بالسلاح، ولكن صوتهم في الواقع هو الأقوى، فليس هناك شيء أصعب من إقناع الآخرين بقيمة الحوار، والتعايش مع الاخرين، والتحلي بالشجاعة بعدم الانجراف مع دعوات التسامح والتصالح والتعاون من أجل خير يستفيد منه الجميع، وصوتهم اليوم أقوى لأنه مضوٍ على القيام بمهمة نبيلة وصعبة وهي بناء النفسيات المنكسرة، وتجميد الجروح الغائرة من أثر الحروب، والتدريب بين الطوائف المتوفرة من أجل بناء مواطنة حاضنة للحياة، وأفراد يقاومون الصواريخ بنزع الأحقاد، ويواجهون الدمار بالأمل في الغد، يجمعون النوايا الحسنة من كل الجهات، فلا شيء ينقذ الأوضاع مما آلت إليه إلا النوايا الحسنة الرامية إلى بناء أجيال لديها مناعة لتدمير ما تبقى من الجغرافيا الإنسانية العربية، ولذا لم يكن ممكنا أن تمر هذه الاحتفالية ولا الندوة التي عقدت تزامنا معها وهي الاجتماع الإقليمي لخبراء الإصلاح التربوي في الوطن العربي في ملتقى كان عوانه "الإصلاح التربوي في مواجهة التطرف في المجتمعات العربية"، والذي نظَّمه معهد المواطنة وإدارة التنوع بمؤسسة أديان، بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي، وبحضور كبير جدا اشتمل على 40 خبيرا عربيا، علاوة على مشاركة من قطاعات مدنية ومنظمات دولية وحقوقية دون الحديث عن عُمان، دور عُمان ليس الوطني ولكن على المستويين الإقليمي والعالمي في بناء أجيال ممانعة للتطرف أياً كانت صوره وأشكاله.
لقد عبَّر كثيرٌ من المشاركين في هذا الاجتماع عن إيمانهم والكبير في تجاوز كل هذا الدمار الذي تعيشه بعض المجتمعات العربية طالما وجدت دولة مثل عُمان، تجسد بصورة واقعية تيار الممانعة العربية للحروب والانقسامات، بل جعلت من هذه الممانعة رسالة سياسية ودينية وتربوية تعمل على إيصالها للعالم الذي يدرك جيدا الثمن الباهظ للتطرف، عُمان التي كما قال أحدهم لي "تضع إمكاناتها المادية لتقليل التوترات بين الدول، تختلف عن تلك الدول التي تخصص أموالها لإشعال الفتن والصراعات"، عُمان الدولة العربية الوحيدة التي امتلكت الشجاعة لكي تقول "لا" لأي تجمعات إقليمية تدعو لمقاطعة أو بناء تحالفات لشن الحروب، هل تفكَّر كثيرٌ من العرب لماذا تقول عُمان بكل مكوناتها لا للحروب؟ قد لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال إلا أولئك الذين لا يزالون يجيدون فاتورة الحروب التي لا تزال كلفتها في تزايد، ورغم ذلك لا أحد يتحلى بالشجاعة لإنهائها قبل أن تتضاعف تلك الكلفة؟ لا يعد ذلك نهجا في صناعة أجيال مليئة بالاحقاد، متحفزة للانتقام، حاملة تاريخ لا يمكنها التنازل عنه لأنها كتبته في الذاكرة بدماء أبنائها أو مواطنيها؛ لذا فلا بد أن يعي هؤلاء أن لا أحد ينتصر في الحرب، ولا أحد يخرج منها قويا، ولا أحد يخرج منها بدون تبعات تمضي معه للقلق مستقبله.
لا شك أن الدولة التي تنجح في الحفاظ على مواطنيها من الحروب طيلة أربعة عقود ونصف في محيط ملتهب هي دولة قوية وراشدة، والدولة التي تعلم أجيالها التسامح مع الآخرين هي دولة تريد أن تحمي مستقبلها من أية اضطرابات محتملة، وهذا النهج هو خيار للحياة والتنمية، لأن التعليم الذي لا يتضمن أية مضامين حول الكراهية هو تعليم يبني إنسانا سويا حين يتفاعل مع الآخرين، وتبني إنسانا يرفض أن يتبع اي دعوات للتطرف أو التحزب، للحفاظ على نقاء بلده وتربتها من أية بذور يمكن أن تنبت تطرفا يقسم المجتمع إلى أنصاف وأثلاث...يقسمهم إلى فئات ويحدد من سيدخل الجنة ومن سيدخل النار، ويحكم على الآخرين بالموت ليعجل بعذابهم، ويطلب من الأولين تنفيذ الحكم ليعجل بهنائهم، فأي مجتمعات مُتعلمة يمكن أن تكون جزءا من هذا التفكير القاتل؟!
ستحافظ عمان على أجيالها واستقرارها من كل موجات التطرف، ليس لأربعة عقود ونصف ولكن لعشرات السنين في المستقبل، ليتفرغ العمانيين للعلم والبناء والتعاون مع غيرهم من الشعوب لتحقيق تلك الرسالة، وسيظل صوت الجميع موحدا بكلمة "لا" لدعوات التطرف والتشدد، فالتطرف العمانية كما عبر عنها صاحب الجلالة السلطان المعظم من النباتات الكريهة التي "ترفضها التربة العمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا، ولا تقبل أبدا أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق".